الرواية وتهشيم التاريخ: تأثير القضايا التاريخية في السرد الأدبي
تستند السرديات التاريخية في علم التاريخ إلى مصادر متنوّعة تجمع بين السرد الشفهي والتوثيق المكتوب، بالإضافة إلى البحوث الأثرية التي تعمل على كشف وتحليل آثار الحضارات القديمة ودراسة تطورها. وقد أصبحت السرديات التاريخية مصدراً غنياً لكتّاب الرواية، حيث وجدوا فيها مجالاً واسعاً يشجّع الخيال الإبداعي على خلق عوالم سحرية قابلة للتطوير وتعزيز الخطاب الإبداعي. تساهم هذه السرديات في استيعاب الأفكار وتمثيلها بأشكال مختلفة، ما يجذب القرّاء (ومنهم قرّاء الرواية) ويحفزهم على استيعاب الرسالة والتفاعل معها، عقلياً وعاطفياً.
ترتبط الرواية بجميع أشكال السرديات التاريخية بشكل وثيق ومترابط، حتى يصعب في كثير من الأحيان تمييز ما هو حقيقي وما هو خيالي. وعلى الرغم من أنّ الدراسات التاريخية تحاول فحص المصادر والأدلة المستندية لهذه السرديات، إلا أنّ من الصعب تمييز العناصر الخيالية التي تملأ بعض الفراغات وتحمل رسائل أيديولوجية معينة.
ظهور الرواية الحديثة
مع ظهور الرواية الحديثة، أصبح هناك مخزون سردي تاريخي غني يمكن للروائيين استكشافه والاستفادة منه، من خلال الغوص في أعماق هذا المخزون واستخلاص ما هو مدهش ومثير، أو السفر فوق سطحه لاكتشاف جوانب جديدة وبناء عوالم سحرية.
تنوّعت أساليب الروائيين في نسج رواياتهم، واعتمدت على تقنيات البناء السردي المتطوّرة، حيث استخدموا السرد المباشر للتاريخ، أو ابتكروا أحداثاً تاريخية من خلال مخطوطة مفترضة، أو قاموا بتخيّل حلول تنقل الشخصيات عبر الزمن.
مع ظهور الرواية الحديثة، أصبح هناك مخزون سردي تاريخي غني يمكن للروائيين استكشافه والاستفادة منه من خلال الغوص في أعماق هذا المخزون واستخلاص ما هو مدهش ومثير
تنوّعت الفترات الزمنية للثيمات الروائية بين الماضي البعيد والمتوّسط والقريب، وكلّ ثيمة زمنية لها خصائصها الخاصة ونوعية خطابها وأهدافها. كذلك تنوّعت أيضاً الأساليب الفنية للسرد بين الرواية التقريرية والرمزية، وبين التزام واقعية الصورة التاريخية للحدث وتحطيم صورة الحدّ التاريخي بشكل مبتكر.
تختلف طبيعة التعامل مع الثيم التاريخية بين الروائيين وفقاً لرؤيتهم الشخصية والمبادئ الأيديولوجية التي يعتنقونها. بعض الروائيين يعتبرون الحفاظ على واقعية الأحداث التاريخية والمبنى التاريخي أمراً ضرورياً، فيما يرى آخرون أنّ الروائي ليس مجرّد مؤرخ، وبالتالي لديه الحرية الكاملة في تحطيم البنية التاريخية وإنشاء فرضيات تاريخية خاصة به، سواء أتشابهت تلك الفرضيات مع الأحداث والشخصيات والزمان والمكان في المصادر التاريخية أم اختلفت عنها.
لا يمكن اعتبار تلك الروايات السردية كتوثيق تاريخي، لأنّها مبنية على خيال الكاتب الروائي، وليست مقتبسة من الوقائع الحقيقية. بناءً على ذلك، تكون خارج نطاق المصداقية الأخلاقية المطلوبة من المؤرخين.
غالباً ما يتعرّض هذا النهج الفرضي للانتقاد من قبل القرّاء، الذين ينظرون إلى الرواية التاريخية على أنّها حقيقة واقعية. وبناءً على ذلك، يقيّمونها وفقاً لمعتقداتهم الأيديولوجية، سواء قبلوها كمصدر يؤيد معتقداتهم أو رفضوها كتحريف مرتبط بأهداف تخريبية.
الرواية والمناطق المحظورة
يتطلب التعامل الروائي مع التاريخ في كثير من الأحيان حذراً واحتياطاً لتجنّب الوقوع في المشكلات أو المناطق المحظورة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا دينية أو سياسية. قد يكون تحريمها في بعض الأحيان مبرّرًا، إذا كان الهدف الأساسي للكاتب تشويه قيم المجتمع أو تحريفها بدلاً من تعزيزها أو الكشف عن جوانب سلبية فيها. هذا التبرير لا يتعلق بقدسية المنهج الديني أو السياسي أو الاجتماعي بحدّ ذاته، بل يتعلّق بخروج السرد عن النص الجمالي المقصود.
في الروايات التي تصنف كسيرة، يجب أن يتم التعامل مع الحدث بدقة ووفاء للواقعية أولاً، وأن يتم تسجيله بأسلوب صحيح ثانيًا
في الروايات التي تصنّف كسيرة، يجب التعامل مع الحدث بدقة ووفاء للواقعية أولاً، وتسجيله بأسلوب صحيح ثانياً. تلك الروايات تفرض وجود توازن بين شخصية المؤرخ، الذي يسعى للحفاظ على صحة الأحداث، وشخصية الروائي، الذي يملأ الفراغات التاريخية بالأحداث المتخيّلة التي لا تتعارض مع الأخلاقية التاريخية.
تُعَدّ هذه الروايات جزءاً من التراث التاريخي، وليست جزءاً من الأعمال الروائية التي تهدف إلى تحطيم البنية التاريخية. من بين الروايات الأجنبية التي استفادت من هذه الفكرة، يمكننا ذكر "اسم الوردة" لإمبرتو إيكو، و"قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، و"مذكرات هادريان" لمارغريت يورسنار، و"الطبيب" لنوح جوردن، و"دعائم الأرض" لكين فوليت. وُظِّفَت واقعية الزمان والمكان والشخصيات في هذه الروايات لبناء قصص درامية ثرية بالمتعة والفكر.
من بين الروايات العربية التي استفادت من هذه الفكرة، يمكننا ذكر "موت صغير" لمحمد حسن علوان، و"النبطي" ليوسف زيدان، و"ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، و"حدائق النور" لأمين معلوف. استفادت هذه الروايات من تحطيم البنية التاريخية في سرد قصصها. كذلك، استفادت الروايات العراقية من هذه الفكرة، مثل "قاموس بغداد" لعلي بدر، و"منازل الحارة 17" لرغد السهيل، و"طوفان صدفي" لسعدي عوض الزيدي. تعمل هذه الروايات على بناء سياق تاريخي افتراضي يستمد أحداثه من خيال الكاتب، وفي الوقت نفسه تعتمد واقعية الشخصيات والمكان والزمان كدعم لأهداف الخطاب أو تطوير السرد.