الرياضة والرأسمالية... أية علاقة؟
محمود صقر
بمناسبة إقامة كأس العالم لكرة القدم في ألمانيا عام 2006، بُني مجمع لبيوت الجنس مقابل المال على مساحة ألفي متر مربع، يمكنه استقبال مئات الزبائن في وقت واحد، بجوار الاستاد الرئيسي في برلين، وحصل الشيء نفسه في مدن أخرى، حيث خُصِّصَت أماكن قريبة من المنشآت الرياضية، محاطة بسياج، داخلها كبائن لممارسة الجنس مقابل المال، تشبه دورات المياه.
وللوصول إلى الربح المستهدف على هامش الحدث الرياضي الأكبر على مستوى العالم، استوردت ألمانيا أربعين ألف عاملة جنس من بلاد متفرّقة لتلبية الطلب المتزايد والأذواق المختلفة للجماهير المتوافدة على ألمانيا من شتى بقاع الأرض، وممارسة الجنس بشكل قانوني في البلد الذي سمح بتجارة الجنس قانونياً منذ عام 2002.
كان هذا ضمن استعدادات ألمانيا لاستقبال الحدث الرياضي الأكبر والأكثر جماهيرية على مستوى العالم كله، إذ نفّذت ما تراه عامل جذب للجماهير، ومن ثم مزيد من الأموال التي تصبّ في جيوب الشركات المتخصّصة في التجارة بالرقيق الأبيض، وتصبّ ضرائب نشاطها (القانوني) في خزينة الدولة.
الغرور والغطرسة الأوروبية تجعلهم يقتنعون أنّ عولمة الثقافة ملازمة لعولمة الحضارة
لم تكن ألمانيا استثناءً أوروبياً في استثمار الأحداث الرياضية الكبرى في تسويق الجنس والتجارة بالبشر بهدف تحقيق الربح، فعلى ذات الدرب سبقتها اليونان في تنظيم دورة الألعاب الأولمبية عام 2004، حيث سمحت أثينا بتخصيص ثلاثين بيت دعارة إضافي، وسمحت باستقدام عشرين ألف عاملة جنس إضافية، كاستثمار لوجود الجماهير المتدفقة من أنحاء العالم.
نُفِّذَت هذه الخطط على وقع أصوات المنظمات الحقوقية الأوروبية المعترضة، التي لم يلتفت لها أحد من المسؤولين، ووسط اعتراض بعض الكتّاب والمثقفين المحترمين، ومنهم الصحافي الفرنسي، هيرفي كيمف، الذي ذكر هذه المعلومات في كتابه "الخروج من الرأسمالية من أجل إنقاذ الكوكب".
عقدة الغرب أنه يرى نفسه حديقة جميلة محاطة بغابة من عالم متوحش، بحسب تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وعندهم القناعة بأنّ القيم الأوروبية التي يعتنقها الجيل الحالي، ينبغي أن تخضع لها بقية العالم.
واحة الديمقراطية الأوروبية لها قيود حريرية ناعمة تكمّم الأفواه وتقيّد الأيدي والأرجل عبر سطوة المال والدعاية والقهر السلطوي والقانوني
الغرور والغطرسة الأوروبية تجعلهم يقتنعون بأنّ عولمة الثقافة ملازمة لعولمة الحضارة، فمطلوب من باقي دول العالم (أهل الغابات) أن يستخدموا التكنولوجيا والصناعة الأوروبية، ومعها في سلّة واحدة قيم الأسرة الأوروبية الحديثة التي لا تعترف بالذكر والأنثى والزوج والزوجة، وتعتبر ذِكر النوع من إساءة الأدب، حيث من حرية الإنسان ألّا ينحصر في نوع الذكر أو الأنثى، ويكون شيئاً ثالثاً، ومن الممكن تكوين أسرة من زوجين من الرجال، أو زوجين من الإناث!
واحة الديمقراطية الأوروبية لها قيود حريرية ناعمة تكمّم الأفواه وتقيّد الأيدي والأرجل عبر سطوة المال والدعاية والقهر السلطوي والقانوني، وتعطي لنفسها الحق في معاقبة مَن يعترض على رؤيتها ومحاصرته وتشويهه. فالكنيسة الأوروبية وموقفها التقليدي من رفض هذه الممارسات بدأت بالتحوّل تحت ضغط هذه القيود، فبعد أن كان رأي بابا الكنيسة الكاثوليكية، فرنسيس، قبل تولي منصبه، أنّ الله خلق الإنسان من ذكر وأنثى، وأعدهما جسدياً لاستمرار الحياة وإنجاب الذرية، عاد بعد تولي منصبه، وقال في أثناء رحلة عودته من البرازيل عام 2013: "من أنا لأحكم على المثليين؟!"، وبعدها نزل درجة أخرى في حديثه عن الموضوع في الفيلم الوثائقي عن حياته: "المثليون لهم الحق في تكوين أسرة، إنهم أبناء الله"!
ومن هذا الفهم للقيود الخفية لظاهر الحرية الغربية، أتفهم موقف لاعبي فريق كرة القدم الألماني، الذي أبدى اعتراضه على القيود التي وضعتها الدولة المنظمة لكأس العالم، قطر، على دعم المثلية الجنسية، وأنظر إليهم بعين الشفقة على إنسان ضُلِّل وأُغوي، فهؤلاء المساكين ضحايا سطوة المال والإعلام وماكينة صناعة النجوم الفنية والرياضية على مستوى العالم، فهم وغيرهم مجرد أدوات ظاهرة، خلفها ماكينة رأسمالية جبارة، مطلوب إنقاذ الكوكب من شرورها.