الزمن والوجودية بين أغنيتين
ما إن انقضى الشهر الأوّل من العام الجديد حتّى أدركنا زيف ترتيلتنا السنوية (عام جديد سعيد)، إذ بدت السنة عادية كساعات تمضي مع مريض مصاب بالتصلّب اللّويحي؛ متسمّر أمام أحلامه والحياة، هو لا يعيش بل يراقب الآخرين كيف يعيشون، وكذلك الآخرون يراقبون آخرين أُخراً! لنبدأ جدياً بعد ذلك باختزال الترتيلة إلى "عام قادم"، فهي أدقّ في التعبير عن صراع الإنسان مع الزمن.
بين فرقة آبا (ABBA) التي غنّت "Happy New Year" سنة 1980 وصباح الشحرورة التي غنّت "ساعات ساعات" في العام نفسه ما هو أكثر من تناص؛ إنّه تطابق موافق للحالة الإنسانية البشرية المرتبطة بالزمن: السنة/ الساعة، حيث يصبح الزمن لحظة تجتمع فيها الإنسانية على البحث عن الهوية والغاية، الوجود والمصير، ليكون الزمن عنصراً مشتركاً يدفع الإنسان نحو التفكير في مفهومه وتأثيره على وجوده. ذلك الزمن الذي ما إن نفكّر به حتّى ينفتق عن بعضه ويظهر سُدم أسود محشو بالتساؤلات الفلسفية والمشاعر الوجودية، إذ إنّه في لحظة هذا "الفتاق" الكوني تختنق الذات، وكأنّ الزمن بلغ بنا الحلقوم، ومصيرنا المجهول أقرب إلينا من حبل الوريد، فنسارع إلى خلق أنفسنا من جديد ونُنشئ كوناً آخر من خلال تقدير مصير جديد لنا، فنتحوّل بذلك إلى ذرّة في عالم الذّر، وما إن نحقن أنفسنا بهذه التساؤلات الوجودية (الكوكايين الفلسفي)، حتّى ننفجر نحن "الانفجار العظيم"، ويتفتّت الميثاق الإلهي ويبدأ عصر جديد للإنسان كنقطة تحوّل في مسار البشرية ترافقها هلاوس وأعراض ذهانية (الإنسان الإله).
يظهر الأمل في إمكانية وجود عالم يسوده الصداقة والتعاطف مع الذات والناس والأشياء
لذا سنحاول رتق رحم الزمن الذي أنجب لنا مواليد عاقّة للسعادة البشرية (التيارات الفلسفية أدناه) من خلال مقاربة وتحليل كلمات الأغنيتين بناءً على الوجودية، العدمية، العبثية.
الوجودية والحرية والالتزام تجاه الآخرين
آبا: سنة سعيدة
فلنحلم كلّنا من حين لآخر
بعالم حيث كلّ جار فيه هو صديق
فلتكن لدينا آمالنا ورغبتنا في المحاولة
وإلا فإنّنا نرقد ونموت.
صباح: ساعات، ساعات
أحبّ عمري وأعشق الحاجات
أحبّ كلّ الناس وقد إيه إحساس
وأحسّ جوايا بميت نغم
ميت نغم يملوا السكات.
في المقطوعتين ثمّة تعبير عن رؤى متفائلة ووجدانية نحو الحياة، إذ يظهر الأمل في إمكانية وجود عالم تسوده الصداقة والتعاطف مع الذات والناس والأشياء. تتناول المقطوعتان أيضاً فكرة الحرية والالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين.
العدمية وتجربة الفرد مع الوحدة وتحديات الحياة
آبا: لم يعد هناك شمبانيا
والألعاب النارية قد فرغت أيضاً
وها نحن، أنا وأنت
نشعر بالضياع والإحباط
إنّها نهاية الحفلة
والنهار يبدو رماديّاً
إذن، وبخلاف الأمس،
الآن هو وقت قول:
عامٌ سعيد
عامٌ سعيد.
صباح: ساعات، ساعات
أحس قدّ إيه وحيدة
وقدّ إيه الكلمة في لساني مهيش جديدة
وقدّ إيه منيش سعيدة
وإن النجوم، النجوم بعيدة
وتقيلة خطوة الزمن
تقيلة دقة الساعات
في المقطوعتين يأس تام مطبق وكآبة تعبّر عن مآزق فلسفية؛ الحياة، الموت، الزمن، التقدّم البشري. كما يظهر عدم الإشباع والرضى في تجربة الفرد مع الوحدة وتحديات الحياة وغياب المعنى.
العبثية.. محاكمة لصيرورة التاريخ
آبا: أحياناً أرى
كيف يهلّ علينا عالمٌ جديدٌ جسور
وأرى كيف يزدهر
على رماد حيوتنا
أوه أجل، إنّ الإنسان أحمق
ويظن أنّه بخير
وهو مثقل بالخطايا
ولا يدري أنّه ضلّ
وهو مستمرّ هكذا بكلّ الأحوال
صباح: غريبة، وغريبة
نفس اللّي بيفرحني ما يفرحني
وغريبة نفس اللّي بيريحني ما يريحني
وأحسّ إن عمري فات
من غير ما أحبّ عمري وأعشق الحاجات
كده ساعات، وكده ساعات.
في المقطوعتين محاكمة لصيرورة التاريخ في سؤاله عن بلوغه الغايات الإنسانية التي كانت مقرّرة، وتحديداً تلك المتعلّقة بالأخلاق والنبالة والتقديس، وبعدما ضاعت هذه القضايا شعر الإنسان بالغربة أحياناً، ومرّة بالانكسار، وتارة بالزهو والغرور، وهو يعلم ضمناً أنّه قد ضلّ طريق السعادة والغاية، إذ يبدأ التساؤل عن فناء العمر والرحيل والحياة ما بعد الموت.
هل حقاً نحن عبث؟ هل حقاً نحن نعيش لنموت؟ وما بين ولادتنا وموتنا حزن وتعاسة؟
أيضاً تطرح المقطوعتان تساؤلاً خطيراً: هل حقاً نحن عبث؟ هل حقاً نحن نعيش لنموت؟ وما بين ولادتنا وموتنا حزن وتعاسة؟ تتناول المقطوعتان معنى الحياة وتبرزان تباين الأحوال والمشاعر التي يمرّ بها الإنسان، ممّا يثير تساؤلات حول الهدف الحقيقي للوجود ومعنى السعادة.
الأداء واللّحن
إنّ الأداء واللّحن يتجسّدان في الأغنيتين كمرآة لزمن متقلّب، حيث يمزجان بين الفرح الظاهر والكآبة الكامنة، ويخلقان جواً يستدعي التساؤلات العميقة. تعتمد الأغنيتين على التناقضات لإيجاد توازن وتشابك بين السعادة والحزن، ما يعزّز تجربة محيّرة للمستمع.
إذاً الفنّ والموسيقى يمكن أن يلامسا العمق الإنساني ويثيرا التأمّلات حول وجودنا ومسارنا في هذا الكون المتغيّر، إذ إنّ للموسيقى والفنّ قدرة على إحياء تجاربنا الإنسانية المشتركة وتعزيز تفاعلاتنا مع الزمن والوجود، كما أنّ تفكيرنا في مفهوم الزمن يثير تساؤلات فلسفية ووجودية، حيث نجد أنفسنا محاصرين بين الحاضر والمستقبل، وكأنّنا نخوض رحلة تجديد للذات في هذا الفضاء الزمني المعقّد، ممزوجة بمشاعر الحيرة والبحث عن المعنى الحقيقي للوجود.