السرفيس الأخير
أخطأت خطأً فادحاً حين فتحت ذلك الحديث مع سائق السرفيس. كان قد مرّ وقت طويل منذ أن استقللت سيارة عمومية. فقد قلّ عدد السرفيسات كثيراً في الشارع البيروتي في السنتين الأخيرتين. لم تعد الأجرة القديمة، حتى التي رفعتها النقابة بشكل غير قانوني من دون موافقة وزارة النقل، كافية للسائقين في ظلّ انهيار سعر صرف الليرة.
مذّاك، تحوّل داخل السرفيس إلى نوع من حلبة، يرتفع فيها صراخ الركاب على السائق المطالب بسعر مرتفع، وصراخ السائق على الركاب المحتجين على الأجرة غير الثابتة. معارك تنتهي بصفق الباب بعنف، وحتى بعراك بالأيدي أحياناً. وفي أحسن الأحوال، بالشتائم. لذا لجأت إلى الباصات على عدم انتظامها، متوخية تفادي المزيد من تعكير المزاج.
لذا، أحسست بأنّي أخطأت عندما فتحت باباً للحديث مع سائق السرفيس الذي اضطررت لاستقلاله بعد مدة طويلة من الانقطاع.
ما إن سألته، حتى أجاب. ثم انهال عليّ بالأسئلة من النوع الشخصي جداً على عادة سائقي السيارات العمومية.
من أيّ منطقة حضرتك؟ بم تعملين؟ هل لديك أولاد؟ أين هو زوجك؟ ماذا يعمل؟
ولطالما فكرت بأصل هذه العادة السيئة لدى سائقي السيارات العمومية التي نسميها "سرفيسات". فما إن تدخل إحداها حتى يتفحصك السائق في مرآته الأمامية، يقيّمك هكذا، ثم يجرّب حظه في مدّ الحديث. سؤال تمهيدي ضروري "لوين واصلة؟"، ثمّ سؤال شخصي يقيس به مدى التجاوب من نوع "من وين حضرتك؟". فإن أشحت بوجهك محاولاً أن تشير إلى عدم رغبتك بالحديث، قد يفهم وينصرف إلى عمله. لكن، قد يحدث أيضاً، إن كان الراكب فتاة خاصة، أن يواصل محاولاته فيسألك متجاهلاً رسالتك الواضحة مع ابتسامة خبيثة "ليش معصبّة؟"، وهو السؤال الوحيد الذي "يعصبني".
أسئلة السائق غالباً ليست بريئة، أو لمجرّد الفضول أو بغرض التحرّش كما قد يبدو للوهلة الأولى. هناك تشفير طائفي/ مناطقي/ أيديولوجي/ لكلّ سؤال وإجابة
وقد لا تكون رغبة السائق بالثرثرة، كما اليوم، لها علاقة بكون الراكب أنثى أو ذكراً. وقد تكون لمجرّد طرد الملل في هذا العمل الروتيني المتعب. لكن جنس الراكب يحدّد اتجاه الحديث، فإن كان ذكراً، يتجه الحديث فوراً من الشخصي (البداية الدائمة) إلى الشؤون العامة وحال البلاد والعباد، أما إن كانت أنثى، فتستمر الأسئلة الشخصية حتى "يرتوي" فضول السائق، أو يتوقف بعد جواب جاف أو نظرة غاضبة.
ولقد استلزم الأمر مني وقتاً طويلاً فهم السبب في راحة السائق وهو يتطفل بهذه الأسئلة الشخصية على ركابه. ذلك أنّ سيارة السائق العمومية، السرفيس، ليست، بالنسبة له، مكاناً عاماً. هي سيارته، مكانه، بل وحتى بيته، وهناك من يشاركه فيه. أمّا السيارة، السرفيس؟ فله وحده.
لذا، وبمجرّد أن تدخل، تصبح تحت سلطته وفي حيّزه الشخصي، في غرفة استقباله. كما لو كنت ضيفاً عنده، زائراً في صالونه الذي على عجلات، ما يشرعن طرحه لتلك الأسئلة الشخصية. لا بل إنّها قد تكون بالنسبة له كمضيف، واجبة، كواجب اللياقة في سؤال من يزورنا عن أحوالهم. وقد يمدّ يده بعلبة السجائر، سائلاً إياك "سيكارة؟".
ألا أنّ أسئلة السائق غالباً ليست بريئة، أو لمجرّد الفضول أو بغرض التحرّش كما قد يبدو للوهلة الأولى. هناك تشفير طائفي/ مناطقي/ أيديولوجي/ لكلّ سؤال وإجابة.
فسؤال "من أين أنت؟". هو سؤال مفخّخ. قد يبدو بريئا لأيّ أجنبي، لكنه ليس كذلك بين اللبنانيين. فـ"من أين أنت؟"، يعني بكلّ بساطة ما هو دينك؟ وإلى أيّ طائفة، واستطراداً لأيّ خندق سياسي، تنتمي؟
وعليّ أن أعترف أنّي لم أمتلك يوماً هذه "المهارة" المحلية في إعادة كلّ "عنزة إلى كرعوبها" المعلّقة منه طائفياً ومناطقياً. وبما أنّي أميل بطبعي إلى الصراحة العفوية، فقد كنت أجيب ببساطة وصدق عن الأسئلة، معتبرة بداية، أنّها نوع محبّب من التواصل الودود. خاصة أنّ مهنة سيارات الأجرة بمعظمها مهنة القرويين النازحين إلى المدن، كأهل قريتي، خلف لقمة عيش لم تعد توفّرها الزراعة في قراهم.
سؤال "من أين أنت؟" يعني بكلّ بساطة ما هو دينك؟ وإلى أيّ طائفة، واستطراداً لأيّ خندق سياسي، تنتمي؟
من أين أنا؟ من منطقة كذا. يرد السائق "آه... منطقتكم مختلطة (يقصد دينياً) من أيّ عائلة أنت؟ آه.. لكن هناك دروز من هذه العائلة في قرية كذا هل هم من أقاربك؟"، أو "هناك سنّة أيضاً في منطقتكم من العائلة نفسها، هل أنت منهم؟".
كنت أغضب لاتخاذ الحديث هذا المجرى. ذلك أنّي لم أكن أتصوّر أنّ إجابتي ستصل إلى هذا النوع من الاستنتاجات التي تصنّفني، بالرغم مني، في ذلك المربع أو تلك الصفة.
أمّا سؤال: "هل لديك أولاد؟"، فهو في الواقع سؤال آخر مفاده: "هل أنت متزوجة؟". بداية كنت، لمفاجأتي، أجيب بواقع الحال. لكنّي لاحظت أنّ الاعتراف بعزوبيتي، يؤدي أحياناً، إلى نوع من "تذبيل" العيون غير المستحب، أو لردود من نوع "امرأة مثلك عزباء؟". يا للهول! وصولاً إلى "أي ساعة ينتهي دوامك؟" أو "لو أردت أستطيع أن أعود فأقلك إلى بيتكم ونحظى بهذه الصحبة الحلوة"، مع ابتسامة أقرب إلى تكشيرة تحرّش.
ثم تعلمت درسي، فالحوارات التي نتجت عن إقراري بسيرتي الذاتية الحقيقية، علمتني أنّ الكذب، ولو كان حبله قصيراً، إلا أنّ مشوار السرفيس أقصر منه. لذا، ورويداً رويداً، طوّرت نوعاً من الدفاع تجاه الحشرية غير المهذبة التي يتسم بها "شوفارية" الخط.
هكذا بعد بداية متعثرة استغرقت مني وقتاً ليس بالهيّن للتخلّص من صراحتي الساذجة، أخذت بتأليف إجابات تُرضي فضول السائق من جهة، وتحول بينه وبين "مد أحاديث" إن لم يكن الموضوع عاماً.
ثم قرّرت الاستفادة مهنياً من الوضع عبر تقمّص شخصيات وسِيَر ذاتية تفاعلية، أي أنّها تتغيّر بتغيّر أسئلة السائق وموضوع الحديث حسب ما يشغل الشارع من قضايا عامة.
ساعدني انتحال صفة الآخرين في هذه المدة القصيرة التي هي مشوار التاكسي على فهم الشارع في يومياته وحساسياته. فتقديم هوية ما، وبدون كاميرا أو ميكروفون، يزيل مخاوف السائق والركاب من الحديث بصراحة عمّا يجول في أذهانهم.
قد يقودك نقاش مع صاحب السرفيس اليوم إلى ما لا تُحمد عقباه، في بلاد صار المواطن يُقتل فيها لأسباب تافهة، كالأولوية على ركن السيارة مثلاً
فمرّة أنا موظفة بنك، وزوجي مهندس في السعودية ولديّ ولدان فتاة وشاب يدرسان في الجامعة، وتارة بائعة في محل في الضاحية، وتارة معلّمة مدرسة. الصفة الأخيرة بدت الأكثر استقطاباً لاحترام السائقين لسبب ما، خاصة في مدينتي طرابلس حيث يخاطب غالبية السائقين ركابهم من السيدات: إمّا بلقب "ست" أو بلقب "أستاذة"، وهي ألقاب أفضل بكثير من ذلك السؤال الثقيل الظل والفظ برغم ادّعائه نعومة فرنسية: "متموزيل ولا مدام؟".
فإن كان الموسم أزمة وقود، أكون صاحبة سيارة تركت سيارتها لغلاء الأسعار في المنزل، وإن كان هناك إضراب للأساتذة أكون معلمة، وإن كان الشارع يهتزّ أمنياً، فمتزوجة من عسكري. وإن كان موسماً من مواسم الفتن الطائفية أحرص على تمرير معلومة عن انتمائي المزعوم لأحد الأطراف.
كان ذلك قبل الانهيار الاقتصادي أو بالأحرى الانهيار بكلّ فروعه في لبنان. اليوم، قلّة تستقل "السرفيس". كما أنّ توّتر الناس لم يعد يسمح حتى بلعب دور ما لفهم ما يفكرون به، فقد يقودك نقاش إلى ما لا تُحمد عقباه، في بلاد صار المواطن يُقتل فيها لأسباب تافهة، كالأولوية على ركن السيارة مثلاً.
انصرف غالبية الركاب إلى الباصات الأرخص وذات الأجرة الثابتة. لكن في الباص المزدحم، نادراً ما يتكلم السائق الذي يخاف من كشف هويته بسبب لهجته إن كان سورياً أو فلسطينياً، في وقت تستشري فيه بطالة اللبنانيين.
"عندك يا عم"، أقطع أسئلة السائق الكهل الذي كان يلف حول رقبته منشفة تلمّ عرقه في هذا الحرّ الفظيع. كنت قد قلت لنفسي إنّي أخطأت بفتح حديث معه. فما قاله أصبح لسان حال الجميع، مكرّراً ومملاً ومؤلماً بالرغم من ذلك.
تحدّث عن اضطراره للعمل بعمره هذا بعد حياة وفر فيها ما يريح شيخوخته لكن المصارف سرقت عرقه. تحدث عن مهنته القديمة في صنع الحلويات، وعن مرضه بالسكري وثمن الدواء الذي يسعى كلّ النهار لتوفيره من شغله كسائق. تحدث عن أولاده في الغربة الذين، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية حتى عندهم في أوروبا، لم يعد بإمكانهم أن يرسلوا ما يساعده. تحدث عن وحدته بعد موت زوجته وغياب أطفاله. ثم سألني إن كان لدي أولاد، ليجيب عندما نفيت "متل بعضها ما تزعلي". ولم أزعل.
أنزل من السرفيس الأخير، وأقف أراقبه يبتعد بهيكل سيارته المهلهل، وسيره البطيء مطلقاً زموره الأشبه بسؤال: طالع؟
ثم أنعمت النظر في الشارع الطويل، فرأيت سيارات السرفيس كما في فيلم سينمائي، تختفي من طرقات بيروت شيئاً فشيئاً، محيلة إلى التاريخ صيغة لبنانية في النقل المشترك، على علّاتها، كانت تتيح شيئاً من التواصل بين مواطنين، لم يعد يعنيهم من همومهم المشتركة، إلا معرفة متى يصل تيار الكهرباء، وكم هو سعر صرف الدولار اليوم.