السنوار بين صناعة البطولة والبطولات المصطنعة
إنّه الساموراي الحقيقي.
هكذا عنونت بعض وسائل الإعلام خبرها حول اهتمام اليابانيين باستشهاد يحيى السنوار وتشبيهه بالساموراي، بل وصفه بعضهم برمز الشرف للساموراي الحقيقي صاحب الفضيلة والتضحية والشجاعة الأبدية.
هذا الوصف لا يختلف عن أوصاف أخرى، تداولتها الملايين عبر العالم، بما يُخالف أو يتناقض مع عالم اليوم المتسارع والمتشابك، حيث تتداخل الحقائق مع الأوهام، وتتشابك الصورة مع الحقيقة، حتى أضحت البطولة مفهوماً مشوّهاً، مبتذلاً في أحيان كثيرة، تُحاك حوله أساطير مُصطنعة تصنعها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
هذه الظاهرة تمثل جزءاً ممّا يمكن تسميته "البطولة المزيفة"، التي تشكّل انعكاسًا مباشرًا لواقع تفاهة العصر الذي تناوله المفكر الكندي ألان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، حيث يشير إلى أنّ العولمة والرأسمالية كان لهما دور كبير في تعزيز مفهوم "البطولة المزيفة" وصناعة المشاهير والخلط المتعمّد بين المفهومين بطريقةٍ استهلاكية مصنّعة وليست فطرية.
كما أنّهما أسهمتا في تقويض معايير البطولة الحقيقية والقيم النبيلة، حيث باتت الرأسمالية، التي تقوم على مبدأ الربح السريع والاستهلاك، تعمل على تسليع كلّ شيء، بما في ذلك الأفراد والمبادئ، لتأتي العولمة وتكرّس هذا النموذج عبر العالم، ما أدى إلى خلق ثقافة الاستهلاك الشامل للقيم والمفاهيم، ومنها مفهوم البطولة.
في النظام الرأسمالي، يتقلّص مفهوم البطولة ليصبح جزءًا من آلة تسويقية لا علاقة لها بالأخلاق أو الإنجازات الحقيقية
في النظام الرأسمالي، يتقلّص مفهوم البطولة ليصبح جزءًا من آلة تسويقية لا علاقة لها بالأخلاق أو الإنجازات الحقيقية، والأبطال في ظلّه غالباً ما يتم اختيارهم اختيارًا دون أن تصنعهم ظروف بطولتهم، وهذا الاختيار غالبًا ما يكون بناءً على قدرتهم على جذب الانتباه وزيادة العائدات، لا بناءً على ما يقدمونه من مساهماتٍ بطولية حقيقية.
بل إنّ مفهوم البطولة دُمج باعتباره جزءًا من الوصف الطبيعي للمشاهير الذين يتصدرون المشهد الإعلامي ثم يُستغَلون كأدوات لزيادة الاستهلاك وتحقيق الأرباح، بينما يُهمَّش الأبطال الحقيقيون ويقدّم إلى العالم أبطال كرتونيون أو ورقيون، يساهمون أيضًا في تعزيز ثقافة الاستهلاك ونشر التسليع وانتشاره.
العولمة، من جهتها، عزّزت هذا الاتجاه من خلال تحويل العالم إلى سوق واحد مشترك، حيث تنتقل الأفكار والقيم بسرعة، ويتحوّل الأفراد إلى علاماتٍ تجارية تُسوَّق للجماهير. في هذا السياق، تُضخَّم البطولة المزيفة عبر وسائل الإعلام العالمية، وتُصدَّر إلى المجتمعات المختلفة، ما يُحكم السيطرة على إدراك الأفراد لمفهوم البطولة ويجعله مرهونًا بالصورة الإعلامية، لا بالمعايير الأخلاقية أو القيم الإنسانية الحقيقية.
لم تعمل العولمة فقط على تعزيز انتشار النموذج الرأسمالي للبطولة المزيفة، بل ساهمت أيضًا في تفكيك معايير البطولة الحقيقية
ولم تعمل العولمة فقط على تعزيز انتشار النموذج الرأسمالي للبطولة المزيفة، بل ساهمت أيضًا في تفكيك معايير البطولة الحقيقية. فمع انتشار القيم الاستهلاكية والثقافة السريعة، باتت المجتمعات تفتقد تلك المعايير الراسخة التي كانت تُعلي من شأن البطل الحقيقي.
في ظلّ هذه العولمة، أُعيدت صياغة البطولة لتتماشى مع مصلحة الشركات الكبرى والإعلام العالمي، حيث أصبحت الشهرة الفورية والمقاييس التجارية هي المحدّد الأساسي لقيمة الأفراد. وبهذه الطريقة، فإنّ الأبطال الحقيقيين، الذين كانت أعمالهم تتحدّث عنهم، باتوا اليوم في غياهب النسيان، بينما يحتل المشاهير (الأبطال) الورقيون الكرتونيون المصطنعون الواجهة.
ربّما هذه النظرة الفاحصة، تدفعنا فعلًا إلى التساؤل: لماذا نظر العالم بعين الحقيقة إلى بطولة الشهيد يحيى السنوار؟ ولماذا شاءت الأقدار لهذا النموذج أن يتسيّد العقول قبل أيّ شيء آخر، وكأنّ العالم الغارق في غابة التفاهة والبطولات المصطنعة كان بحاجة إلى بطلٍ حقيقي، بطل يعيد تقديم البطولة نفسها دون فلاتر الرأسمالية وقيودها الاستهلاكية، بطل يقدّم بطولة حقيقية طبيعية فطرية، تنسجم مع الحقّ وتدافع عنه، وتدفع بنبيل قيمها عصًا من خشب تقاوم به حتى اللحظة الأخيرة، دون مكاسب أو عوائد مادية، دون مشاهدات وأرقام إحصائية، بل يدفعها إلى ذلك التزامها الذاتي الداخلي بكلِّ معاني وقيم الحق الإنسانية التي غُيّبت عن هذا العالم الذي أُغرق بنماذج البطولة المزيفة، ثم جاء "أبو إبراهيم" وأعاد البطولة الحقيقية برمزيتها الواضحة الساطعة وأيقونتها المشهدية لصاحب الحق الملتزم بالحق، والحق لا غير.