السياسة العرجاء
السياسة زنة فِعالة من ساس يسوس. وزنة فِعالة للحرفة والاختصاص مثل تجارة ونجارة وحدادة وزراعة. والفاعل هو السائس. ومنها سائس الخيل، أو حاكم الدولة، وجمعه القدماء على ساسة، ومنه قول الكميت بن زيد الأسدي في إحدى هاشمياته: فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم. وأعرج: مُصاب بالعرج، من يمشي مشية غير متساوية بسبب عِلَّة في إحدى رجليه، من يغمز في مشيه. وحديث السياسة العرجاء التي يُحارب من خلالها الحُكّام الشر بالعنف، أو قُل "الإرهاب"، على حد تعبيرهم، لا ينتهي، وهذا خيارهم على كل حال، مع العلم أن هذا الخيار على الضد من فكرة السيد المسيح والتي سعى إليها أعظم أُدباء روسيا ليف تولستوي في حياته، يقول: الشر لا يُستأصل بالشر، ومقاومة الشر بالعنف مجرد زيادة لقوته، والشر يُستأصل بالخير، ومن جميع الأسلحة لمقاومة الشر استبعدوا هذا السلاح الخطر ألا وهو "العنف" ومقاومة الشر بالشر.
عشت عمري لا أخضع للسائد كما كان المفكر العراقي هادي العلوي - رحمه الله - إذ لا يخطر على بالي، ولا يمكن أن أتصور أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرد أنني مسلم. فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الإحساس بالامتلاء، والوقوف على أرض ثقافية صلبة أنا مدين به لتراث فكري حضاري إنساني عميق وعريق.
لا أعتبر أن هناك عالماً إسلامياً وعالماً مسيحياً، أنتمي إلى مجتمع إسلامي ضمن العالم الأوسع، وهذه الكرة الأرضية ليست ملكاً لنمط فكري أمريكي-أوروبي سائد اليوم، إذ إن لي الحق فيها، ولي الحق في ثقافة هذا العصر، لأنني أمتلك حضارة ويمكنني أن أساهم بها على الصعيد العالمي.
في ظني أن الشباب الأحرار في الميادين والساحات قد تمردوا على نمط الدولة السائد، وهم يحاربون هذا الشكل من الدولة الاستبدادي ويريدون العودة بها إلى مفهومها الأول: دولة بسيطة، تُقاد من حاكم بسيط عادي يخاف الله ورسله الذين بعثهم لهداية البشر سواء السبيل حيث رفع السماء ووضع الميزان.
وفي ظني أيضاً أن الرعب الذي أصاب الحُكّام كان مشروعاً. لأن مشروع الشباب الأحرار في الميادين والساحات يتعارض بالمطلق مع شكل الدولة "الحديثة" التي حكمت هذه المجتمعات لأكثر من سبعين عاماً ومع ذلك فشلت في حمل هذه المجتمعات على القبول بها. وهذه نتيجة طبيعية لأن الدولة في شكلها الجمهوري الديمقراطي العسكري - الثوري إن شئت - استبدادية يحكمها طاغية من فئة "دكتاتور صغير مجنون" مكانه الحقيقي "العصفورية" مش القصر الجمهوري. وهذا الشكل من الدولة لا يُدمر المرء، ولكنه يمنع وجوده، لا يستبده فقط، ولكنه يعتصره ويوهنه ويخمده ويخدره، بل ويفعل ذلك في الأمة كلها، كي لا تكون شيئاً أكثر من قطعان حيوانات مذعورة.
يرى المفكر العراقي هادي العلوي أن سر الأسرار في هذه السياسة العرجاء أن الحاكم يريد أن يفكر ويعمل بالنيابة عن جميع الخلق، وما إن يقعد قائد "الدولة والمجتمع" على كرسي القيادة حتى يكتسب صفات القدسية ويتحرك على قاعدة "كن فيكون"، ويمكن التوصل من الاستقراء الميداني لتجارب الحكام أن القصور العقلي يلازم أهل الدولة، وأن ما يُصيب البلاد والعباد من الكوارث هو في بعض أسبابه من نواتج هذا القصور العقلي للحكام والفعل الكارثي للدولة يأتي في المقام الأول من نذالة حكامها ولصوصيتهم وانحرافهم الأخلاقي وخساسة رغباتهم وبالجملة من صغر نفوسهم.
ولكن يا هادي ما تفسير ذلك؟
عندي أن نفس الحاكم يجتمع فيها من الشر ما "تفرق" في نفوس الأفراد وتفسيره أن وجوده في السلطة يجعله قادراً على استيفاء صفات الشر والفساد بسبب زوال الرادع الذي يجعل الفرد العادي يخاف من التهمة والحساب إذا اجتمعت فيه هذه الصفات، وخوف الفرد العادي يكون من الناس والسلطة القضائية والحاكم لا يخاف منهما، ومن المعتاد أن يتصرف الحاكم بوصفه قوة ردع ضد المخالفات القانونية والأخلاقية مما يتيح له الانفراد بالشر والعدوان لكونه آمراً لا مأموراً، وتدل التجارب على أن هذه الصفة مرافقة للحاكم العسكري بشكل دائم.
من ينظر في تكوين شخصية "الحاكم العسكري" ويسبر أغوار هذه النفس الآثمة يجد خواء يسده البطش. فقيرة وصغيرة هي نفس "الحاكم" التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان. فقيرة يا - أبا العلاء المعري - هي تلك النفوس التي لا تُخفف الوطء لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد.