"السيد العميد في قلعته": امتحان تسريد الفضاءات المُغلقة
ما كدتُ أنتهي من قراءة رواية "السيد العميد في قلعته" (دار التنوير، 2022) ، حتى أصدر مؤلفها شكري المبخوت رواية جديدة ("يوميات نور"، التنوير، يوليو 2023). عادة ما أقرأ أوّلاً بأول إصدارات الكاتب التونسي، وأنهيها دون إبطاء، والأرجح أن مردّ ذلك كان دأب المبخوت على تشبيك الفصول وتطويع نهاياتها بحيث لا تترك فصلاً إلا وقد أمسكت بخيط يسحبك لقراءة اللاحق؛ هذا ما كان منذ "الطلياني" (2014) وصولاً إلى "السيرة العطرة للزعيم" (2020)، في حين عزف المبخوت عن ديدنه في "السيد العميد في قلعته"، وقد أصبحت العودة للنص لا تنتظر إلا الدفع الذاتي من القارئ، إذ يقف حيثما يقف ثم يعود فيجد نفسه في نقطة ما من ذات الفضاء الروائي وهو يمضي مثل مجرى ماء هادئ، ترى حركة لكنها سوى جزء من المشهد الثابت للنهر.
هذا بناء مضاد لقارئ متكاسل. يقال أن النص آلة كسولة تحتاج كي تتحرك إلى جهد من القارئ، ولكن ماذا إذا وجدت هذه الآلة الكسولة أمامها قارئاً كسولاً؟ حين لا يهجم أحد الطرفين على الآخر، ينبغي أن يتدخّل المؤلف، ولذلك فقد منح المبخوت قارئه خارطة في البدء: فهرساً للمحتويات، والفهارس من نوافل النصوص الروائية، إلا أن لها في أدب المبخوت حظوة وعناية، وهي تبلغ في رواية "السيد العميد" مستوى أرفع من الاجتهاد والابتكار، لتبدو مثل نص مستقل بذاته فيه "عتبات" و"أبواب" و"مداخل" و"أروقة" و"أسوار"(...) في معجم مكثّف (أضف إليه مفردات الخيانة، الحصار، الضباب..) نعرف من خلاله أي فضاء أعدّه المؤلف للسيد العميد كي يعبره، والفهرس بهذا المعنى أشبه بالرواية مُصغّرةً.
وإلى جانب الفهرس، قدّم المبخوت لقارئه مفتتحاً هو حديث عن "القلعة" بما هي متاهة. وهذا المفتتحُ نص غريب عن بقية الرواية، يأتي في طبقة صوتية تقف على مسافة بعيدة من بقية العمل، ولن نعرف حتى إن كان ذلك صوتَ الراوي نفسه الذي نواصل معه بقية العمل، أم هو صوت المؤلف أم صوت العميد. ولعل ذلك من سمات القلاع، حيث نقاد فيها دون أن نعرف من قرّر مساراتنا ومن وجّهنا داخلها يميناً أو شمالاً، حسبُنا أن نعرف ما يُقدّر لنا أن نعرف...
هكذا، بدا لي أن المبخوت حينما ترك أدوات التشويق التي حضرت في رواياته السابقة، عوّضها بمهارات التشييد في "السيد العميد" تاركاً قارئه يزور القلعة، يُغريه بأن الدهليز المخيف "لا يظل مرعباً إذا نزلنا إليه واعتدنا ظلمته الحالكة"، هنالك أنزل العميدَ فاصطحبناه في رحلته بين حيتان الحياة الجامعية.
ليست هي المرة الأولى التي يدعونا فيها المبخوت إلى الجامعة. فصل طويل من "الطلياني" دار في الكلية، ولم تفارق مجمل أحداث "السيرة العطرة للزعيم" فضاء الجامعة، فما الجديد إذن؟
في "السيد العميد في قلعته" يوجد انتقالٌ بزوايا النظر. تتموقع الحكاية هذه المرة في الفضاء المغلق من الكلية، فضاء الإدارة والقرارات والمكاتب. فضاء الاستمرارية والثبات. تعودنا مع شخصيات الطلياني والزعيم على المناورات في الهامش، والذي يطابق عادة الفضاءات المفتوحة من الجامعة (الساحة والمُدرّج أساساً)، وها نحن الآن في قلب الرحى، هناك بين الجدران وعند الكواليس.
تعوّدنا أن نأتي - نحن قرّاء الأدب - إلى الجامعة عابرين، مع تلك الشخصيات (شخصيات المبخوت وغيرها)، وها نحن في منطقة الثبات حيث يحتاج التغيير إلى أبجدية مختلفة. كأنما فرَغ المبخوت من تسريد الفضاء المرئي للجامعة، ورأى أن عليه أن يبدأ في تسليط الضوء على القابع في الحُلكة والمتدثّر بقانون الصمت.
ترك المبخوت أدوات التشويق التي حضرت في رواياته السابقة، وعوّضها بمهارات التشييد في "السيد العميد"
جميع مقدّمات المبخوت، أو لنقل المنافذ التي يقترحها، تجعل القارئ واعياً بشكل مبكّر بهذه القيمة المضافة، وبالتالي سيَعبر النصَّ وبمرافقته إشكاليةٌ: ما المخيف الذي جعل هذه الأماكن مستعصية على الرواية، وعلى غيرها من أشكال التعبير؟ بعبارة أبسط، ما الذي جعل من الجامعات قلاعاً مغلقة؟
أما متطلبات هذا الطموح في تسريد كواليس الحياة الأكاديمية فهي لعبة أدبية بسيطة: اقتراح شخصية هي في نفس الوقت من داخل وخارج المنظومة المحرّكة للجامعة، شخصية تحمل مُثلاً وجديداً تحاول أن تجسّده في واقع يناصب العداء لكل مثالية وتجديد. شخصية ينبعي أن تتاح لها صلاحيات واسعة حتى تكون ارتطاماتها بالواقع قوية فتهزّه أمام أعيننا، وهل ينفع لهذا غير رأس السلطة داخل الجامعة؟
شخصية نتعرّف عليها في اليوم الأول من تقلدها منصب العميد، فتجد أمامها "الضباب في الطريق الموصلة إلى القلعة كثيفاً إلى حد انعدام الرؤية"، وفي نفس الوقت يشعر العميد الجديد "أنه سيغيّر كل شيء في هذه الكلية" مع تفصيل آخر يورده الراوي "لا يعرف كيف ولا ما يجب تغييره".
يواصل المبخوت تعقيد المهمة، حين يرسم الفضاء الأشمل؛ تونس في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ بلد محكوم بمنطق تكميم الأفواه فيما يورد النصُّ صراحة رفضَ العميد لهذا الوضع، وأكثر منه فساد العائلة الحاكمة وتحويل الحياة السياسية والثقافية الى صحراء. إذن هي قلعة في صحراء، يأتيها عميدنا من أجل الإصلاح. بهذه العناصر، لن نتوقع إلا الخسارات للعميد، فمساره مؤثث سلفاً بالتصادم والفخاخ والخيبات، وبالتالي نحن لا نقرأ كي نتعرّف على ما يحدث وإنما لنعرف كيف حدث ما حدث.
يحرث العميد طوال الرواية في البحر. تُسعده نجاحات صغيرة، لكنه يفشل في تحريك السواكن، وتنتهي صراعاته مع المنافقين والتافهين والمتسلقين إلى قناعة لم يكن يؤمن بها بادئ الأمر "هذه الكلية غير قابلة للإصلاح". الربط بين قناعات العميد في بداية النص ونهاياته تجعل من رواية شكري المبخوت إضاءة على الثقوب السوداء التي تبتلع كل طاقة في مجتمعاتنا.
لكن خسائر العميد هي كلّ ما يَربحه الأدب، فتلك المعارك التي يخوضها تتيح تعرية الراكد، وهي التي تسمح بتشريح الشخصيات التي تسكن القلعة، بمواقعها المتعددة من أساتذة وقادة طلبة وموظفين ونقابيين ورجال أمن(...) ميكانيكا آلة ضخمة تربط الشخصيات فنتعرّف على أمراض الإدارة، وأساليب الغش (لدى الطلبة والأساتذة على حد السواء)، وكيف يجري ترتيب المؤامرات والدسائس، وكيف تسير المؤسسات دون أهداف.
يحرث العميد طوال الرواية في البحر. تُسعده نجاحات صغيرة، لكنه يفشل في تحريك السواكن
يُفترض أن تكون الجامعة فضاء إنتاج معرفة، ولكن طوال الرواية لن نجد للمعرفة ذكراً، لا نلتقي - مثل العميد - إلا بالمشاكل الظرفية والمفتعلة والعراقيل الإدارية والتجاذبات المجانية. من هذه الزاوية، نلتقط أطروحة من أطروحات "السيد العميد" (أو قل لا-أطروحتها): تاريخ الجامعة التونسية ليس تاريخ أفكار، هو مجرّد تاريخ تسيير يوميّ، وروتينيات ومناورات.
ولتاريخ الأفكار إشارة في النص، حيث جعل المبخوت من العميد متخصّصاً في "دراسة تاريخ الفكر العربي وقضاياه" وقال بأنه "استطاع أن يزاوج بين تاريخ الأفكار والدراسات الحديثة في تحليل الخطاب"، ولكن بناءه السردي يُظهر أن العميد منذ أن تقلّد مسؤوليته انفصل عن تاريخ الأفكار، ولم يستطع أن يزاوج بينه وبين يوميات المؤسسة التي ابتعلته حتى رفع المنديل وبدأ يفكّر في الهجرة تاركاً القلعة تواصل "التدحرج" إلى قعر الهاوية.
اختار شكري المبخوت قلعة الجامعة ليفتحها بـ"أنوار" السرد. فهل للسرد القدرة حقاً على مثل هذه الفتوحات، إذا كان الأدب في حدّ ذاته غير مرئي إلا في الحدود الدنيا، وهناك قلاع كثيرة أخرى لا تزال قابعة في ظلماتها، وهذه العوالم الصغيرة الخفية يُشكّل مجموعُها عالمنا الذي نسكن فيه ولا ندري كيف تعمل أجزاؤه في ترابط وتناغم فتصنع واقعنا وتفرضه علينا. وهل هذه البلاد أو تلك إلا "قلاع متلاصقة"، إذا اقتبسنا عبارة لمظفر النواب، وهي مغلقة ليس لرغبة فوقية فحسب بل لأسباب داخلية، دوائرٌ مُفرغة لا تتيح التقدّم خطوة إلى الأمام.