السينما وتشكيل المخيال الجمعي
لا يشك اثنان في الدور الذي لعبته الأسطورة عند الشعوب القديمة، غير أنّ قلّة تدرك اليوم أنّها ما زالت تلعب، تقريبًا، نفس الدور الذي كانت تقوم به قديمًا، إنّما عبر أشكال جديدة. ففي الماضي، لم يصغ أفلاطون فلسفته إلا من خلال الأساطير اليونانية، وقد سعى جاهدًا لأن يُخفي ذلك، كما أنّ الكثير من النظريات العلمية المعاصرة تعود جذورها في الحقيقة إلى الأساطير القديمة، ناهيك بكون بعض المفكرين (وخاصة من تعود جذوره منهم إلى الديانة اليهودية)، تأثروا بالكتاب المقدّس، وإن كانوا يدّعون العلمية والموضوعية. لكن هناك جانباً آخر تتسرّب منه الأسطورة إلى حيواتنا اليومية دون أن ندرك ذلك، ألا وهو مجال السينما.
إذا ما أخذنا بالرأي الذي يقول إنّ الجانب غير الواعي هو الذي يقود الجانب الواعي فينا، فإنّ الجانب اللاواعي هو جانب أسطوري، وخاصة اللاوعي الجمعي، حيث إنّ الجانب لا يتشكّل إلا من خلال الأساطير التي تؤطّر جماعة عرقية ما أو دينية. فسلوكيات الجماعة هي في الحقيقة محكومة بالمخيال الجمعي، وهذا بدوره يكون مؤطّرًا بالأساطير، وبالتالي فمن يستطِع أن يتحكّم في تشكيل هذا المخيال يستطِع التحكّم في الجماعة. ويكفي أن نشير هنا إلى الدور الذي تلعبه الميثولوجيا اليونانية في تشكيل وعي الشعوب الغربية المعاصرة، وتقابلها الأساطير العربية القديمة في تشكيل وعي العرب المعاصرين.
قليلون هم أولئك المثقفون العرب الذين أولوا الأساطير العربية بالدراسة والتحليل اهتمامًا، ومن هذه القلّة سعيد يقطين الذي قدّم عددًا من الدراسات لكنها لم تنل من الاهتمام ما تستحقه. وفي المقابل، يبدو واضحًا مدى تبني المثقفين العرب للأساطير اليونانية واستلهامهم لها في كتاباتهم، أو حتى في دراساتهم التي يقومون بها، ونأمل ألّا يكون هذا الأمر هو الذي جعل بعض المثقفين العرب يظهرون وكأنهم غرباء عن قرّائهم العرب، حيث لم يستطيعوا تحقيق شرط التواصل معهم أو مخاطبة وجدانهم.
من يستطِع أن يتحكّم في تشكيل المخيال يستطِع التحكّم في الجماعة
إنّ دور السينما بالأساس هو دور جمالي، أي توفير المتعة، أو على الأقل هكذا يراها الكثير من الدارسين الذين يدرجونها في قسم الجماليات. لكن في الحقيقة، إنّ السينما تقوم بأدوار متعدّدة، وخاصة حينما تكون سينما موّجهة. صحيح أننا قد نكون نتحدّث الآن عن الخطاب الاستشراقي ودوره في تسهيل عملية الاستعمار، ومن ثمّ خضوع الشعوب العربية للقوى الغربية. ولكن، في الحقيقة، هذا الخطاب يُبرز تفوّق أسطورتهم على أسطورة العرب، أو يحاول محو ذاكرة هذه الشعوب، والتي تشكل الأسطورة جزءًا منها، وذلك بهدف تثبيت أسطورتهم أو ذاكرتهم (الثقافة اليونانية)، ومن ثم يحاول (الخطاب) إخضاع الثقافة العربية لتأويلات ثقافته، حيث إنّه لم يكن يرى إلا نفسه، والآخر ليس إلا امتدادًا له. وهذا الأمر بدأه الخطاب الاستشراقي لكن ما أوصله إلى عامة الناس هو السينما، فهي التي استطاعت اختراق ذاكرة الشعوب، ومن ثم محو أسطورتها.
فالشعوب التي تتخّلى عن ذاكرتها، أو لا تستطيع تجديدها، تُمحى من الوجود وتخرج بكلّ تأكيد من الصراع الحضاري. كما أنّ تجديد الذاكرة يتحاذى مع الفن والأدب والسينما التي تلعب الدور الأكبر وخاصة اليوم، حيث أصبحت ثقافة الصورة هي المهيمنة على الشعوب.
وأخيرًا، يمكن القول اليوم إنّ من يستطِع الهيمنة على الصورة يستطِع الهيمنة على الشعوب، وأمام الانفتاح التي تشهده الدول العربية، يُطرح سؤال عن مصير الثقافة العربية، مع ضعف الإنتاج السينمائي فيها.