الشعب مصدر السلطات
أتتذكر استفتاء مارس؟ حين أرادوا تعديل الدستور؟ لا بد أنك سمعت عن أن "الشعب مصدر السلطات" كيف أصبح هذا مبدأ دستوريا في مصر اليوم، أو لم تكن مصر تابعة للخلافة منذ مائة عام فقط؟ كانت مصر ولاية، ثم سلطنة ثم مملكة، وأخيراً جمهورية، هل كان مصدر السلطات في كل هذي الأشكال واحدا؟ أو كان الشعب؟
..
طرح الإنكليز على أنفسهم هذا السؤال منتصف القرن السابع عشر. بعدما حل الملك البرلمان، لكن الحرب مع اسكتلندا كانت دائرة، ولذا أراد الملك فرض ضرائب جديدة ليجهز الجيوش، لم يستطع جمعها بنفسه، ولذا فقد استدعى البرلمان مرة أخرى، والبرلمان أغلبه من الإقطاعيين والوجهاء، وطلب الملك منهم جمع مزيد من الضرائب من الشعب. لكن المفاجأة، رفض البرلمان. وقامت الحرب التي قسمت البلاد بين ملكي وبرلمان، ونشبت المعارك في طول البلاد وعرضها.
..
انعزل الملك وسلطته في جزيرة، والسلطة الآن في يد البرلمان، لكن هل يستطيعون محاكمته؟ كان بعض البرلمانيين يرون أن الملك قد ارتكب خيانة عظمى. رفض الملك مفاوضات البرلمان.
بدأت محاكمة الملك تشارلز الذي رفض الاعتراف بسلطة المحكمة، وقال إن سلطته تأتي من الإله الذي اختاره ليجلس على عرش إنكلترا ويسوس أهلها بما يرتئيه من تدبير الأمور. وليس من حق الشعب أو البرلمان أن يعصيه علاوة على أن يثور عليه، والآن يحاكمه.
..
وهنا انقسم أعضاء المحكمة، فمنهم من رأى أن أصل السلطة هو الإله، وبالتالي لا يمكن أن نحاكم الملك الذي اختاره الإله، بتهمة الخيانة. لأنه وببساطة لا يمكنه أن يرتكب الخيانة ضد نفسه، فهو السلطة وممثل الإله على الأرض، وإن من يرتكب جريمة الخيانة إنما يرتكبها خيانةً للملك.
..
أما القسم الآخر فرأى أن الملك تمكن محاكمته، فقد جلب على شعبه الكثير من المعاناة والقتل بعقده لواء الحرب ضده وضد ممثليه من البرلمانين. وإنه وإن كان هو الملك، فإن الشعب ليس كالماشية يسوقها كيفما يشاء ويهدر دمها إن أراد، وإنما الشعب هو تمثيل السلطة وهو من يملكها في الأصل، ويفوضها للملك ولغيره لتسيير أموره والحفاظ على مكتسباته.
..
وهنا كان الوضع في المحكمة على كفتي ميزان لا يجور أحدهما على الآخر. حتى كان رأي الجيش البرلماني، ضد الملك ورجح كفة الحكم عليه بالإعدام لجرائمه ضد الشعب. حتى قيل بأن أوليفر كرومويل نائب قائد الجيش، حمل أعضاء المحكمة حملا على توقيع حكم الإعدام.
أما الملك والذي ظل على رفضه الاعتراف بالمحكمة فقد تم تنفيذ حكم الإعدام عليه، وقد قيل بأنه قد لبس قميصين حتى لا يرتجف، فيظن الناس أنه يرتعد خوفا من الموت.
..
وهنا، أسألك، هل كان النظام في إنكلترا ليتغير لو أن قادة الجيش أمثال أوليفر كرومويل انحازوا لأصحاب الرأي الأول المعتقدين بالمصدر الإلهي للسلطة؟ أو لو أن الملك استطاع قهر جيش البرلمانيين، وصارت السلطة كليا بيد الملك، وبالتالي صار الملك صاحب الحق الأوحد في السلطة، هل كان للبرلمان أن يملك سلطة حينها؟ وهل كان نظام الحكم ليتطور فيصبح كما نعهده الآن؟ دعني أسألك في النهاية، ما هو مصدر السلطة؟ الشعب كما يدعي البرلمان؟ أم الإله كما يدعي الملك؟ أم القوة العسكرية التي تفرض نفسها باستخدام أي من الفلسفتين؟