الصين والتحولات الاقتصادية الكبرى في المنطقة
تماشياً مع المفاهيم السياسية والاقتصادية الجديدة، لم يعد الصراع اليوم يعني، بالضرورة، وجود مواجهات عسكرية مباشرة بين الدول، وهو الطريق الذي انتهجته الصين في ظلّ استراتيجية اقتصادية كبرى وتحوّلات شاملة، لم تبدأ في وقت قريب، بل سُطّرت ضمن أجندات سابقة، حيث شهد عام 2022 أحداثا مهمة فــي العلاقات بين الصين والشــرق الأوسط مــن خلال سلسـلة من التحـرّكات السياســية للصين، أهمهــا زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للسعودية، والتي قال خلالها إنها "ستفتح عصراً جديداً للعلاقات بين الصين والعالم العربي ودول الخليج والسعودية"، وهي التطوّرات التي أتت بعـد تنام كبيـر للانخراط الاقتصادي الصيني في المنطقة، حيث حقـّق الاقتصاد الصيني النموَّ الأكبر له في التاريخ خـلال الـ25 سـنة الماضيـة، ويسـتمر في تحقيــق نمو عام بشكل سنوي، ما شكّل رسالة واضحة إلى العالم أنّ الصين قادمة بقوة.
قد يتساءل البعض: لماذا تريد الصين التوغل في الشرق الأوسط؟ أو لماذا الشرق الأوسط تحديداً؟
الجواب، وبكلّ بساطة، إنّ الشرق الأوسط يقع على مفترق طرق بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهو موقع ممتاز للتوسع الاقتصادي الذي يحتاج أيضاً إلى النفط بشدّة، إضافة إلى أهمية تأمين طرق الإمداد البحرية التي تخشى من أن تتمكن الولايات المتحدة من قطعها في حال نشوب صراع.
في الحقيقة إن الصين، وإلى وقت قريب، كانت في صراع بين مصالحها الاقتصادية وسياستها الخارجية، غير أنّ المتغيّرات التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية أعطت جرأة أكبر لدخول الصين منطقة الشرق الأوسط بكلّ ثقلها، فهي لم تعد مجبرة على إمساك العصا من منتصفها، ولم تعد تحرص كثيرًا على إرضاء الجميع وعدم إغضاب أحد، فقد تم الاعتراف بها كقوة دولية ناهضة بعدما فرضت نفسها اقتصادياً، واكتسبت مزيداً من الثقة بالنفس، ما أحدث تغييراً في مصالحها الاستراتيجية، وتغيّرت معها علاقتها بالقوى الكبرى، وبالتالي لا بد من أن يفرض ذلك تغييراً في سياساتها وفي سلوكها الدبلوماسي. ومن ثم فإنّ مركزية دول الخليج بالنسبة إلى المصالح الصينية في الشرق الأوسط، دفعت الصين للنظر إلى الخليج كسوق محتملة للاستثمار، سواء بالنسبة إلى البنية التحتية للصناعات الثقيلة مثل الموانئ والسكك الحديدية، أو كوجهة للتكنولوجيا الصينية مثل الذكاء الاصطناعي. وعلى الجانب الآخر، ترى دول الخليج فائدة في الارتباط أكثر في الصين ودعم استراتيجياتها المستقبلية، مثل رؤية السعودية 2030.
المتغيّرات التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية أعطت جرأة أكبر لدخول الصين منطقة الشرق الأوسط بكلّ ثقلها
باتت الصين على أعتاب مراحل متقدّمة من التحولات الاقتصادية والاستراتيجية، مع تنامى فكرة الابتعاد عن الطاقة بالنسبة للاستثمار الخارجي، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط، فقد اتجهت الشركات الصينية بالفعل إلى الاستثمار المباشر، بالإضافة إلى العديد من عقود البنية التحتية الكبيرة الممنوحة للشركات الصينية، حيث تقوم هذه الأخيرة ببناء الموانئ ومناطق التجارة الحرة في المنطقة، بما في ذلك في عمان ومصر والسعودية والكويت. كما نما التعاون بين الصين والدول العربية ليشمل التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجدّدة والسياحة والطيران. وتستخدم معظم دول مجلس التعاون الخليجي تقنية هواوي الصينية المثيرة للجدل في شبكات اتصالاتها.
ومع ذلك، فإنّ أحد أنواع التعاون المتزايد، وهو الأكثر إثارة للجدل، يتضمن الإنتاج المحلي للمعدّات العسكرية، حيث يطوّر السعوديون صواريخهم وطائراتهم دون طيار بمساعدة صينية، بينما اشترت الإمارات طائرات مقاتلة صينية.
وعلى الرغم من أنّ منطقة "الشرق الأوسط" لم تكن يومًا ما محور اهتمام في الاستراتيجية الصينية كما هي عليه اليوم، إلا أنها اليوم تنظر إلى الصين كلاعب دولي يمكن الاعتماد عليه، في ظلّ انحسار الوجود الأميركي في المنطقة، وإدراك دول الشرق الأوسط ضرورة تنويع علاقاتها بما يضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية على حد سواء. في ظلّ زيادة المخاوف من صعود نظام عالمي غير ليبرالي جديد، تصطف القوى العالمية في كوكبة جيوسياسية جديدة، ينقسم معها العالم بين دول ديمقراطية في مواجهة دول غير ديمقراطية.
لا يمكن للصين ضمان استمرار النمو والتنمية إلا من خلال اعتمادها رؤيةً تحظى بالقبول من القوى الدولية، وحرصت الصين على الظهور بمظهر الفاعل الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، غير أنّ هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بمصالح مشتركة مع دول المنطقة، والتي ترتبط منذ سنوات بالولايات المتحدة الأميركية، وحرصها على علاقتها معها سيشكل الهاجس الأكبر بالنسبة للصين في حين ستتعرض هذه الدول لضغوطات كبيرة لتقليص الوجود الصيني فيها في حين أنّ أكبر الصعوبات يتمثل في إبقاء العلاقات مع جميع الأطراف ضمن مسافة آمنة.