العدمية بين شوبنهاور ونجيب محفوظ وعم سيد!
"نظرة الناس، هي الجحيم".. قالها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، في مسرحية خلف الأبواب المغلقة، فكان يرى أن المجتمع يمارس التعذيب في تعاملاته كمن يغلق عليه أبواب الجحيم، فالإنسان الذي يقيد نفسه بنظرات الناس وتقاليد المجتمع وأفكار الآخرين تصبح حياته النفسية جحيمًا، ويصير قشة تتأرجح بين أمزجة الناس وآرائهم، وتتوقف سعادته حسب رضا من حوله عنه، ولكن مصيبة الإنسان في طفولته عندما يكون جحيم المجتمع هو جحيم الأسرة ونظرات الناس هي نظرات الأبوين، يخسر وقتها الإنسان طفولته، ويظل بقية حياته تابعا لمعتقدات المجتمع خائفا من تنظير الآخرين، فالمشكلة دوما تبدأ في مرحلة الطفولة، وغالبا تكون على يد الآباء.
ولعل ذلك ما دفع المفكر المصري سلامة موسى أن يقول: "لا أكاد أعرف كيف يمكن للأم المصرية أن تربي طفلها وتبعث فيه الشجاعة، إذا كانت تختبئ من الغرباء وتهرول مذعورة إذا طرق الباب، ويبقى الطفل طول حياته يخاف الغرباء"، لأن المحدد الأول لسلوكيات الإنسان ومنبع تصرفاته يكمن في فترة الطفولة التي يهملها الكثير من الآباء في المجتمع.
ولكن رغم كل ذلك لم أكن أتخيل أن تمتد المعاناة حتى أرى هذه المأساة أمام عيني، ولم تتجل المعاناة في طفل أو مراهق، ولكنها تسربت لرجل أربعيني يظهر على ملامحه الحزن كان يجلس في ركن مبتعدًا عن الجميع، نظراته توحي بكراهية أجواء المستشفيات، لكن القدر يمسك يدي ويقودني إليه، تقربت منه وعرفت اسمه، كان يعاني من اكتئاب حاد ورغبة متكررة في الانتحار..
كان حلها بكل بساطة أن يقف عم سيد في ميدان التحرير رافعا جلبابه ويبكي ويصرخ بعلو صوته مؤكدا حزنه مشاركا إياه مع الناس
سألته عن حكايته، وفي لحظة ونس وفضفضة، بدأ الرجل يحكي بلهجته الريفية وبنبرة مختنقة: "الراجل لابد يكون عوده ناشف، ما يهزه الريح.. كانت تقولها ستي الله يرحمها دايما يا بيه، أم أبويا كانت فرحانة بابنها الجدع اللي جابني أنا وأخواتي في الدنيا، بس الهم والحزن كبير يا بيه، ولما الدنيا تقفل في وش العبد لله مكانش ينفع أحكي لحد ولا أقول لحد عندي في البيت، أصل يا بيه لازم أكون وتد، كنت بقفل باب الأوضة وأبكي لحد ما كُم الجلابية يدووب من البكا يا بيه، بس كنت أخجل من نفسي وأقول هو أنت قلبت وبقيت تشبه مراتك ولا إيه يا سيد، لازم تكون وتد صحيح يا أبو السيد.. لازم..".
اتضح لي سبب حزن عم سيد الأربعيني، فهو يخاف من نظرة الناس، يخاف أن ينكشف أمام ضعفه ويراه أي واحد من أهله ضعيفا أو حزينا، وكأن الضعف والحزن والبكاء عيوب في الذات الذكورية، وكأنها صفات أنثوية خالصة، ولكن الحقيقة أن الجنس البشري كله يعاني من الضعف والحزن، والعيب في أن يواري الإنسان مشاعره، سواء كان ذكرًا أو أنثى، فالرجل الذي يواري ضعفه وراء العنف والغضب والكراهية يدفعه لارتكاب أفظع الجرائم وأقبح الأفعال، وكلها أفعال المجتمع في غنى عنها إذا بكى الرجل وتجرد من خوفه واعترف بضعفه في أوقات الضعف والانهيار.
ولأن نظرات الناس هي الجحيم وسلوكيات الإنسان نتاج بيئته وأسرته في طفولته، استطاع الأديب نجيب محفوظ خلق الشخصية السيكوباتية باحتراف في روايته "السراب"، فنرى أن كامل رؤبة لاظ بطل الرواية يعاني منذ صغره، عاش في طفولته مع أمه التي فرضت عليه العزلة والانطواء والحرمان من أن يعيش حياته مع الأصدقاء في سنه، والأب رؤبة لاظ من عائلة أرستقراطية انفصل عن زوجته في بداية الزواج، وعاش حياته بين الخمر والعربدة، فكل ذلك طبع على حياة كامل رؤبة لاظ الحيرة، فأصبح يعاني من اضطرابات نفسية، أثرت على حياته الزوجية ودفعته للخمر لكي ينسى حياته، لأنه كاره لها ساخط عليها.
وما كان يعاني منه بطل رواية السراب يتشابه في مأساة الفيلسوف الألماني شوبنهاور، فكلاهما نشأ في بيئة أرستقراطية، وكان والد شوبنهاور يميل للانطواء والعزلة كما كانت والدة كامل، وكلاهما قد عانى من الحرمان وأرهقهما التبعية لآراء الآخرين، فكامل قد أصبح موظفًا بوساطة جده في وظيفة يكرهها، وشوبنهار قاوم عملًا لا يحبه حتى كره حياته.
واتضح من رسائل أمه له أنها كانت دومًا توبخه وتنتقد شخصيته فتقول: "أنت شخص لا يُطاق وعبء كبير، العيش معك صعب، إن تصلفك يغطي جميع محاسنك، وتصبح محاسنك تافهة، لأنك لا تستطيع كبح نزعتك تجاه انتقاد الآخرين وإظهار سلبياتهم".
فالفيلسوف الألماني شوبنهاور هو ضحية من ضحايا التعنيف الأسري التي أثرت فيه وجعلته فيلسوفا عدميا تمتلئ كتاباته بالسوداوية، التي دفعته ليؤسس أفكارًا بوهيمية، فهو يرى أن على كل إنسان أن يفهم العالم كمهزلة كبرى ويكف عن التزاوج حتى تفنى البشرية.
لذلك كان التعنيف الأسري وتنظير المجتمع هما العامل المشترك الذي عانى منه كامل رؤبة لاظ وشوبنهاور وعم سيد، نتيجة عدم اعتراف المجتمع بضعف الإنسان، وهو بطبيعة الحال لا يقدر على كبت مشاعره، سواء كانت مشاعر حزن أو فرح أو حب أو غير ذلك. هكذا طبيعة الإنسان تدفعه لكي يحرر نفسه، فلو تم كبتها بواسطة التقاليد والعادات لتجنت أمراضا نفسية، وكان حلها بكل بساطة أن يقف عم سيد في ميدان التحرير رافعا جلبابه ويبكي ويصرخ بعلو صوته، مؤكدا حزنه مشاركا إياه مع الناس، وكان كامل رؤبة لاظ صرخ في وجه أمه ليلعب مع بقية الأطفال، واعترض شوبنهاور على والده عندما دفعه لوظيفة لا يحبها، وعمل كاتبًا كما أراد.