العراق المعاصر بعد التسع عشرة
مع دخول العراق سن البلوغ القانوني وحصوله على الاستقلالية بعد خروجه من مرحلة الفصل السابع، لا يزال العراق يعاني من عذابات التفرد بالزعامة وما تأتي به السلطة المطلقة من مفسدة للنفوس والضمائر.
فبدل تفرد مجموعة بالسلطة المركزية خلال الأجيال المتعاقبة بعد الاستقلال وتأسيس الدولة العراقية الحديثة، تبعثرت بعد عام 2003 السلطة المركزية في مناطق متعددة فأصبحت كل منطقة تسمى بزعيمها أو بالعكس، بل وصل الأمر لعمل التشكيلات الأمنية المركزية لوزارة الداخلية العراقية كعسس لوالي المنطقة، يعتقلون من يريد ويضربون ويعذبون من يشتهي.
ونتيجة لهذه السلطات المناطقية المتفردة والتي تتخذ منهج الحكومات الأوتوقراطية السابقة كدستور في السر رغم سبها في العلن، أصبح العراق مدمناً الحديث عن أمراضه المزمنة من نقص حاد في المياه والطاقة والخدمات والطرق واحتراق المستشفيات بمرضاها وانعدام آدمية المدارس والمرافق العامة، وظهرت مهن جديدة معتاشة على هذه المعاناة المزمنة كجيوش المستشارين وطبقات المطبلين، وانتعشت حركة الطباعة الورقية في العراق، لا لكثرة المؤلفات وانهماك المواطن في القراءة والتثقف لينسى واقعه المرير لا سمح الله، بل لطباعة صور الزعماء وفي بعض الأحيان إصدار كتب عن سيرتهم وإنجازاتهم "الوهمية" يكتبها عنهم وباسمهم من يقدر على فك الخط من المطبلين سالفي الذكر.
رغم تربعه على كنوز من الثروات الطبيعية والبشرية والجغرافية والتاريخية، لا يزال العراق يعاني من نقص حاد في الثمرات والماء والطاقة وأزمات الوقود، فمع بداية كل شتاء يعاني المواطن من أزمة شح النفط الأبيض (أو المازوت كما يسميه أشقاؤنا في سورية ولبنان)، كذلك أزمات غاز الطبخ. ومن الطريف أنّ إحدى تلك الأزمات تزامنت مع فوز العراق بكأس آسيا في كرة القدم ليستبدل العراقيون في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي صورة الكأس الذي رفعه الكابتن يونس محمود بقنينةِ غاز مسال مع عبارة "جيب الغاز جيبه".
وصل الحال المأساوي إلى حدّ أنّ العراق أمسى مستورداً لكل احتياجاته ومنها ماء الشرب من دول لا أنهار ولا مياه جوفية فيها!
وسنوياً بين الفينة والأخرى يشح وقود السيارات فيبدو أنّ الجهات المعنية تحاول إراحة المواطن قليلاً من مراجعة السمكرية ومصلحي السيارات لتبديل مضخات الوقود وفلاترها وأنابيبها، نتيجة لانسدادها بشوائب الوقود الغالي الثمن رغم قذارته كيميائياً وفيزيائياً، وتصر الجهات المعنية على "استيراد" هذه الأنواع الرديئة من الوقود وبيعها بأسعار عالية.
ومن الغريب أن "يستورد" العراق أغلبية احتياجاته من الوقود النفطي والغاز، لكن هيهات أن يشغل زعيم الطاقة فكره وعقله الجهبذ بحل أزمة تافهة كهذه أو على الأقل الإجابة عن هذا التساؤل. بل وصل الحال المأساوي إلى حدّ أنّ العراق أمسى مستورداً لكل احتياجاته ومنها ماء الشرب من دول لا أنهار ولا مياه جوفية فيها! دول تسد حاجتها وحالياً حاجة السوق العراقي العطش للماء والنزاهة بتحلية مياه البحر!
وفي محاولة تتصف بالشجاعة الأدبية والتهور المهني يقوم نفر "ضال" من الإعلاميين المحترفين بمحاولات شجاعة للبحث في أسباب الفساد في ثنايا قشرة النظام السياسي المعقد تعقيد خلطات الدولة العراقية، فما يكون من والي الصحافة غير ممارسة مهام ولايته بخنق أصوات الصحافة الحرة بكل الأشكال والأساليب، وقطع أرزاق وفي بعض الأحيان أعناق هذا النفر "الضال" عن جادة القطيع، في مخالفة صريحة للقوانين الجنائية والنقابية والأخلاقية. فكيف تسول له نفسه هذا الصحافي ذو الضمير أن يبحث في أسباب الفساد ولا يرى ويهلل ويتشدق بمدح نقطة الماء المزعومة في الكأس الفارغ تماماً إلا من طبقات غبار الفساد المتراكم عبر سنين السراب المقدس.
وهذه الفعال بالضبط هي الواجب المناط بهم وصك تمديد الولاية والزعامة لهؤلاء الولاة، فالدولة بخير ما دامت خزائنها مشرعة للسراق، ولا يهم أنها تعاني من التخريب الممنهج وغياب الأمن (وآخرها استهداف المسكن الحكومي للسيد رئيس الوزراء بطائرات ألعاب مسيرة تحمل قنابل حربية)، وكذلك مشاهد الملايين من المواطنين المهجرين داخل بلدهم في خيمٍ في العراء يستبيحها برد الشتاء القارس ويخنق أطفالها غبار الصيف الكثيف.
لا أريد يا عزيزي القارئ أن أرسم لك صورة سوداوية وأنت تبدأ يومك أو تنهيه ببعض المطالعة، لكن ما تقرأه الآن هو أخف أنواع درجات اللون الأسود التي يتصف بها واقع المواطن العراقي المرير، فقد اكتشف العراقيون أن للون الأسود درجات تتدرج في سوداويتها مع تقادم السنين.
إنّ ما يعانيه الشعب العراقي من سوء الجيرة وغدر الإخوة وبذلهم لكل أنواع العون والمال لولاة العراق المعاصر، قد وضع الشعب العراقي محاصراً في سقر الدنيا بجميع طوائفه ومذاهبه الفكرية.
مع كل الألم والمعاناة والاختناق بالفساد المشرعن لا أجد ختاماً لهذا المقال غير القول التالي: مرت على العراق سنون سود بعدد زبانية الدرك الأسفل من النار تشتد سواداً سنة تلو أخرى، فقد أكلت تلك السنون التسع عشرة أخضر العراق، وما زال جرادها ينهب ما تبقى من اليابس، لكن وكما يقال في الأثر، إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، فالحمد لله والحمد له على نعمة الحمد لله وإنا لله وإنا إليه راجعون.