العيش في العصر الكرتوني
عبد الحفيظ العمري
لو صح لنا أن نسمي هذا العصر الذي نعيش فيه تسمية جديدة، فماذا سنسميه؟ هناك مقترحات كثيرة تجول بالخاطر، منها أنه عصر الكذب أو الدجل؛ حيث كثرَ الكذابون فيه حتى إنهم صبغوا الزمان بسمتهم، وذلك لأن الزمان مجرد وعاء، والناس الذين يعيشون فيه هم الذين يصبغونه بصبغتهم في كل عصر، فتصبح العلاقة بين الناس والزمان تبادلية؛ إذ يصبغ الناسُ الزمانَ بصبغتهم، والأجيال الجديدة تنمو على صبغة الزمان فتتلون به.
وقد أشار الإمام الشافعي إلى ذلك بقوله:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا / وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ / وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وقد نتساءل: لو نطق الزمان، فأي هجاءٍ سيقوله فينا؟
لكن مع ذلك، لن أسميه عصر الكذب، لأن اللفظة مطاطة زيادة عن اللزوم، ومستهلكة إلى درجة كبيرة..
بدلاً من ذلك، دعونا نسميه العصر الكرتوني، لأن كل شيء فيه يتهاوى أو يبدي هشاشته كالكرتون!
فقد كشفت الأحداث الأخيرة، في غزة بالذات، الكثير من هذا التهاوي، بل قد عرّتنا نحن كعرب أمام أنفسنا أولاً، وعرّت العالم في الوقت نفسه؛ فاكتشفنا زيف الواقع الذي كنا نعيشه، وكذلك زيف العالم الذي من حولنا، والمتشدق بكل المسميات المزركشة التي يدلقونها علينا في كل حين.
أما عن أنفسنا كعرب؛ فقد وجدنا أن كل الأنظمة السياسية التي تحكم هذه المنطقة الجغرافية، سواء السابقة أو الحالية، لم تكن إلا إطاراً لكانتونات جغرافية متناثرة على الخريطة، قائمة على المحددات الثلاثة التي حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، بحسب د. محمد عابد الجابري، وهي القبيلة والغنيمة والعقيدة، ولا تزال تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر، والنتيجة إحباطات ونكسات فتحت الباب لعودة المكبوت، وهكذا عادت العشائرية والطائفية والتطرف الديني والعقائدي لتسود الساحة العربية بصورة لم يتوقعها أحد من قبل، لقد عاد المكبوت ليجعل حاضرنا مشابهاً لماضينا، فأصبحت القبيلة محركاً للسياسة، والريع جوهر الاقتصاد، والعقيدة دافعاً للفعل وتبريراً للقمع.
هذه الكانتونات تحذر كل واحدة منها الأخرى وتكيد لها، فلا تغرنا القبلات الدبلوماسية التي نراها أثناء (القمم) العربية التي هي الأخرى، أي القمم، مجرد (ثقوب سوداء) تبلع كل تحرك حقيقي في الشارع العربي!
فخلصنا إلى أننا نعيش في أرض الموات المسماة خطأً الوطن العربي الكبير، لكنه في الواقع (الوطن العربي الكسير)!
جغرافية تاهت خطوط الطول والعرض في تحديدها، كما تاه تاريخها المليء بالخزعبلات والخرافات والأساطير التي تخرج من كهوفها في أي لحظة (تاريخية) تستدعيها المنظومة السياسية.
وبدا لنا أن المسميات التي طرقت أسماعنا وأذهاننا منذ وعينا بهذه الدنيا، مجرد مسميات لا وجود لها إلا على الورق وضمن التلقي!
من أمثال: الوطنية، والمواطنة المتساوية والتسامح و.. إلى آخر ما كانوا يحشوننا به في مادة التربية الوطنية!
هذه الظلال من المفاهيم لا وجود لها على واقع الحال!
أما عن موقع القضية الفلسطينية لديهم، فتلخصه مقولة الكاتب اليمني مروان الغفوري: "يمجّد العرب القضية الفلسطينية، ويحاصرون الفلسطينيين"!
ماذا عن الغرب؟
نحن كشرق على الرغم من تعاملنا مع أنظمة الغرب السياسية طوال هذه الفترة الطويلة، أقصد خلال العصر الحديث، إلا أننا يبدو لم نفهم أنظمة الغرب تماماً!
فهي ليس ضدنا وليس معنا في الوقت نفسه!
أنظمة الغرب مع مصالحها في براغماتية واضحة، لذا تتقلب مواقفها معنا، من صديق إلى عدو كما يبدو لنا، حسب تلك المصالح، وهذه ليست مشكلتها، بل مشكلتنا نحن الذين لم نفهم بعد. نحن الواقعين في شَرَك نظرية المؤامرة، إما مضخمين لها زيادة عن اللزوم، وإما نافين لها بالمرة. وهي في حقيقة الأمر رعاية المصالح في ميكافيلية مطلقة.
يقول د. عبد الإله بلقزيز في كتابه (ثورات وخيبات: في التغيير الذي لم يكتمل): "المصلحة: قيمة القيم في أخلاق الغرب الحديث، وديانته الرأسمالية".
بيد أن أنظمة الغرب السياسية حيال قضية فلسطين كشّرت عن أنيابها جميعها، وأبدت وجهها الحقيقي القبيح، ضاربة عرض الحائط بكل المسميات للقيم التي دأبت تتحدث عنها كحقوق الإنسان والديمقراطية و.. إلخ.
فرأيناها تقف بقضها وقضيضها مع دولة الاحتلال، على الرغم من كل المجازر التي ارتكبها ضد الشعب الفلسطيني، في غزة خصوصاً، أمام عدسات كاميرات الفضائيات المختلفة.. وعلى الرغم، أيضاً، من رفض شعوب تلك الأنظمة لهذه السياسيات، الذي عبّرت عنه بجلاء في مظاهرات ماراثونية لم تتوقف منذ بداية الحرب قبل سبعة أشهر وحتى اليوم، غير أن تلكم الأنظمة السياسية لم تأبه لذلك، وظلت تدعم الاحتلال في صلف لا يقل رعونة عن صلف الاحتلال نفسه؛ ثم جاءت مظاهرات طلاب الجامعات الأميركية، لتزيد الصورة وضوحاً وجلاءً لكل ذي عينين ولب؛ فرأى العالم تدخل قوى الأمن إلى حرم الجامعات لفض اعتصامات الطلاب هناك، في بلد حرية التعبير والديمقراطية.
هذا هو العصر الكرتوني الذي نعيش فيه، بكل تناقضاته التي تجعل الحليم حيران، سواء في الشرق أو الغرب.