الغرب... صانع المرايا العربية!
في فيلم "المومياء" الذي تمّ تصويره عام 1999 عن المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر، يسعى بطلان غربيان وراء اكتشافات أثرية، لكن اللافت هو طريقة تصويرهما للمجتمع العربي في مشاهد الفيلم. فعناصر الفيلم ممتلئة برموز تُشير إلى نمط حياة الإنسان العربي، غبار وأقمشة ملونة، جِمال وخيام ونساء شبقات في مظهر إغرائي، وحياة فوضوية. هذه باختصار حياة الإنسان الشرقي العربي في عيون هوليوود التي تحاول تكريسها أمام المجتمع الغربي والعالمي.
وهي في الوقت ذاته ليست بريئة في مغزى إظهارها العربي بهذا الشكل، فهناك رسالة خفية للمتلقي مفادها أنّ المجتمعات غير الغربية ما زالت تعيش في أطوار ما قبل التحضّر والتطوّر، وهي أقل شأناً ومكانة من المجتمع الغربي الذي يقود العالم، سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وحتى فنياً.
يسود الاعتقاد الشائع بأنّ الإعلام والإنتاج السينمائي هو الذي يقف وراء تصوير الشرقي بهذه الطريقة، لكن هناك مصدرٌ لا يستهان به يغذّي الآلة الإعلامية بكلّ ما تحتاجه عن الصورة النمطية للعربي والشرقي بشكل عام. فالمستشرقون بجميع أقسام دراساتهم الشرقية واللغوية والتاريخية، والرحّالة الغربيون أيضاً، هم أوّل من بدأ بتكوين صورة مغلوطة ومشوّهة عن ذلك الكائن الذي يعيش في الشرق. وهو ما حاول البرفيسور الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، في كتابه الشهير "الاستشراق"، كشفه وإخراجه من خلف الستار، إذ قام في كتابه هذا بتشخيص دقيق، وبطريقة علمية وأكاديمية، للمستشرق، الذي بدوره حاول تشخيص الإنسان الشرقي وشخصيته من منظور تغلبه التحيّزات، وقائم على أحكام مسبقة واعتقادات، أساسها العداء للإسلام القادم من الشرق، بالإضافة إلى منظور التفوّق العرقي للرجل الأبيض.
في كتابه، جمع سعيد خلاصة معظم ما قدّمه المستشرقون عن العرب والمسلمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين. مستشرقون كأرنست رينان وساسي وفلوبير ولامارتين ونيرفال وغيرهم الكثير. تركزت دراساتهم وملاحظاتهم عن الشرق باعتبارهم شعوباً وضيعة، همجية، إرهابية، متخلفة، مخادعة وغدارة، تكره النظام، وغير دقيقة، أفرادها كسالى، ويسعون وراء الملذات، وهي بحاجة إلى الرجل الغربي الأبيض ليرفع من مستواها ويُدخِلها الحضارة والتاريخ، اعتماداً على التجربة الغربية المتقدمة في الحضارة الإنسانية.
الصورة النمطية المصنّعة غربياً عن العربي وتكريسها إشكالية كبيرة بحاجة إلى مواجهة، لكنها تتحوّل إلى معضلة أكبر حين تقتنع هذه المجتمعات بالصورة التي صُنعت لها ووضعت في قالبها
على سبيل المثال، يقول رئيس الجمعية الآسيوية، أستاذ السنسكريتية في كلية فرنسا سلفان لي، عام 1925 عن مهمة الغرب تجاه الشرق: "لقد أخذنا على عاتقنا مسؤولية التدخل في تطوّرهم، أحيانًا دون أن نستشيرهم، وأحيانًا أخرى استجابة لمطالبهم".
ولعلّ ما يزيد الوضع كارثية أنّ كتبهم موجودة في أقسام الدراسات الشرقية في أعرق الجامعات البريطانية والأميركية والفرنسية، ويستقي الدارسون منها كمراجع لهم في دراساتهم وأبحاثهم عن الشرق. وهكذا تتوالد دراسات متعدّدة في كافة المجالات عن الشرق وشعوبه، في انحراف كبير عن الواقع. الواقع الذي تعيشه شعوب الشرق، دون حاجتها إلى الآخر ليدرُسها ويكيّفها حسب تصوّراته هو ونظرته للمجتمعات البشرية. وبالتالي، أصبحت مراكز القرار والإعلام والفن وجميع من يريد التعامل مع الشرق وشعوبه لا يذهب للشرقي مباشرة ليسمعه ويفهم منه، لأنه لا يثق به، بل يذهبون إلى الدراسات السابقة التي كُتبت عن الشرق، واعتبارها خريطة الشرق الأكثر دقة. وهذا ما يفسّر لنا طريقة تناول الدراما والسينما الغربية لشخصية العربي وصورته النمطية في أعمالها، أو حتى استخفاف السياسيين الغربيين في تعاملهم مع قضايا الشرق الأوسط.
ولا تكمن المشكلة هنا فقط، فآلة الإعلام والمؤسسات الأكاديمية الغربية استطاعت إقناع العربي بأن شخصيته الحقيقية هي ما كتب عنه الغربي، وما تُصَوِره وسائل إعلامهم، وبتنا أكثر تصديقًا لما يقول الآخر عنّا (الغرب) -حتى وإن كان استخفافًا وسخرية- أكثر مما نقوله نحن عن أنفسنا. وبدأ الشرقي يعيش بشخصية غير شخصيته، ويلبس ثوباً غير ثوبه. فأصبحنا نرى أثرياء عرب يجوبون شوارع لندن ونيويورك وباريس وإسطنبول، وهم يلبسون ملابسهم التقليدية يبذرون أموالهم على النساء والملذات وأفخم الماركات، ينصبون خيامهم في أماكن عامة لإظهار هويتهم العربية والتفاخر بها، أضف إلى ذلك، أنّ الدراما العربية أصبحت بلا وعي تستخدم تلك المشاهد للتعبير عن واقع العربي وطريقة عيشه. وأنا هنا لا أنتقص من رموزٍ هُوياتية لأيّ مجتمع، كالملابس التقليدية أو الخيمة أو الجمل، لكن الغربي يحاول ترميز العربي بتلك الأشياء كدلالة على بدائيته وبساطته وبُعده عن الحضارة.
لا شك بأنّ صناعة الصورة النمطية للعربي بتلك الطريقة وتكريسها إشكالية كبيرة بحاجة إلى مواجهة، لكنها تتحوّل إلى معضلة أكبر حين تقتنع هذه المجتمعات بالصورة التي صُنعت لها ووضعت في قالبها، فتتبناها وتؤمن بها، مما يعيق تطوّرها الحضاري، لمنافسة الأمم الأخرى، الغربية منها على الأخص، والتي ما زالت ترى بأنّها قائدة الحضارة البشرية ومتزعمة باقي الأعراق.