الغريب السوري: هامشيٌ أم متأقلمٌ مبدع؟
لم يكن الرحيل بالنسبة للسوري خياراً، ولم تكن الهجرة درباً ذا اتجاهين أحدهمها العودة. وها نحن في البلاد الجديدة متروكون للقلق يختلج في صدورنا، للثقافات تلتقي، تتصارع، ثم تتصافح على مائدة هُوّياتنا العائمة، تاركة لنا أسئلة عن معنى الغربة والغريب، عن معنى القيم، عن المعنى الذي صرناه، عن مآلات شخصياتنا التي تلاقحت وأنتجت ما أنتجت.
درست في تخصّصي الأكاديمي للعمل الاجتماعي في ألمانيا موضوع الهجرة بدقة، وقرأت دراسات كثيرة تعجّ بالإحصائيات والأرقام والبيانات، إذ يجرى التركيز على تأثيرات الهجرة في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، ولا يجرى التطرّق إلا لماماً إلى آثارها النفسية، وخاصة على المستوى الفردي؛ أي تأثيراتها في ذات الفرد وتجلياتها في نمط الشخصية التي تتمخض عنها، والتي يُطلق عليها مسمّيات محدّدة كالمهاجر أو الأجنبي أو الغريب.
بخلاف لغة الإحصاء، أعايشُ المهاجرين السوريين من حولي كأفراد، كأصدقاء وأقارب ومعارف، ممن يعتريهم القلق والحيرة والضياع وتتقاذفهم الأمواج من قيمة إلى أخرى، ومن أسلوب عيش إلى آخر، من أقصى الانفتاح على الآخر إلى أقصى الانغلاق على الذات في سعي متواصل للوصول إلى سكينة ما مجدّداً، في خضم هذه الاضطرابات التي خلفتها الاتصالات الثقافية الجديدة.
حتماً لم نعد كما كُنّا، ولكن هل تقتضي هذه الحتمية أنّنا صرنا كيانات غريبة ومهمّشة وتعيسة، أم بخلاف ذلك أمسينا كيانات متأقلمة يمكن لها أن تُبدع وتتميز رغم جراحها، أم شخصيات جديدة هي مزيجٌ خاصٌ من هذا وذاك؟ للإجابة عن هذه الأسئلة كلّها، لا بد من البحث الدقيق في معنى الغريب/ المهاجر والتعرّف على صفاته النفسية ودوره الإجتماعي وطبيعة علاقته مع الآخر.
من هو الغريب؟
تحضرني أثناء كتابة هذه السطور صورة الغريب في المسلسلات البدوية، والذي يظهر فيها عابراً لقبيلة ما بغرض سقاية فرسه أو لحاجة يطلبها عند شيخ القبيلة، أو لبيع بعض منتجات الزينة لنساء العشيرة. وفي الواقع، إنّ صورة الغريب النمطية والبسيطة هذه، والتي تصوّره شخصاً يأتي لغرض ما ويغادر مجدداً دون أن يستقر في المكان الجديد، كانت تُجسّد المعنى الوحيد المطروح في الماضي، ليس شعبياً فحسب، بل في مجال العلوم الاجتماعية أيضاً.
في تاريخ الاقتصاد، ساد المعنى نفسه، فكان الغريب هو التاجر. إذ تمنحه التجارة طابع الحراك، فلطالما ارتبطت الحاجة إلى التاجر بتأمين المنتجات التي لا تتوفر لدى جماعة ما، وفي هذه الحالة، لا بدّ أن يكون التاجر غريباً ما دام أعضاء الجماعة لا يغادرونها بغرض شراء هذه الضروريات، وإن فعلوا صاروا إذاً تجاراً/غرباء لدى الجماعة الأخرى التي يتعاملون معها.
الغريب قريب إلينا، وبعيد عنّا في الوقت نفسه
كان عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني، جورج سيميل، أوّل من طرح مفهوماً للغريب، في مقالته "استطرادات عن الغريب"، لا يزال محطّ اهتمام علماء الاجتماع إلى يومنا هذا باعتباره "المهاجر المحتمل"، أي ليس بوصفه الشخص دائم الحركة والتنقل "الذي يجيء اليوم ويذهب غداً، بل الذي يأتي اليوم ويبقى للغد" دون أن تنتفي احتمالية رحيله الكامنة.
تبرز مكانة "الغريب" في اللحظة التي يختار فيها أن يستقر في المكان الجديد بدلاً من مغادرته. ولذلك اهتم سيميل بالغريب الذي يبقى، معتبراً إياه عنصراً من عناصر المجموعة، لكن موقعه في هذه المجموعة يتحدّد أساساً بحقيقة أنه لم ينتمِ إليها منذ البداية، ما يقتضي أن يكون خارجها ويواجهها. ومن هنا تجوز مقارنته بالفقراء، فهم مادياً خارج المجموعة، إن جاز التعبير، ولكن هذا الخارج ليس سوى طريقة للتفاعل معها.
تتضمن أي علاقة إنسانية ثنائية القرب والبعد، إلا أن هذه الثنائية تظهر بشكل جليّ ومنتظم، مُشّكلة "وحدة" في ظاهرة الغريب. فالغريب قريب إلينا وبعيد عنّا في الوقت نفسه: قريب ما دمنا نشعر بوجود صفات مشتركة بيننا، سواء كانت قومية أو اجتماعية أو صفات ذات طابع إنساني عموماً، وبعيد ما دامت هذه الصفات المشتركة عامة ولا تربطنا به بشكل خاص، بل تربط الكثير من الناس بعضهم ببعض. وهذا ما يجعل العلاقة بالغريب ذات طبيعة تجريدية ويضفي عليها الشعور بالغرابة، بمعنى أنه بينما ترتكز علاقة الأشخاص المرتبطين بالجماعة عضوياً على ما يشتركون به من خصائص مميزة تختلف عن السمات العامة، فإنّ المرء لا يشترك مع الغريب إلا بالخصائص والسمات العامة، وهذا يضيف إلى العلاقة معه عنصر برود؛ أي شعوراً بكون هذه العلاقة طارئة.
يمكن لإحساس الغرابة أن يظهر في أكثر العلاقات حميمية في اللحظة التي يختفي فيها الإحساس بالتَّفرُّد، وليس سببه هو الشعور بالاختلاف بل الشعور بأن التّشابه والتناغم ليسا سمتين تُميّزان هذه العلاقة بالذات بل هما سمتان عامتان لا يشترك فيهما طرفا العلاقة فحسب، بل عدد كبير من الناس. نظراً لذلك، لا تكون عناصر (القرب والبعد، المشترك وغير المشترك) في العلاقة مع الغريب عناصر فردية بل عناصر عامة مشتركة للكثير من الغرباء، ولهذا السبب يكتسب الغريب موقعه الاجتماعي بوصفه غريباً، لا بوصفه فرداً يحمل مضامين موضوعية معينة.
الهجرة والإنسان الهامشي
رغم مساهمة جورج سيميل المهمة في شرح علاقة الغريب (الهائم) مع الآخر المستقر (صاحب الأرض)، إلا أنه ترك لنا أسئلة كثيرة دون إجابة، كونه لم يدرس التحوّلات الداخلية التي تطرأ على شخصية الغريب على المستوى النفسي، والتي تُميّز سلوكه عن غيره.
بدوره، اهتم عالم الاجتماع الأميركي روبرت بارك بالإجابة عن هذه الأسئلة، فقدّم مقاربة للغريب، أو للأجنبي، باعتباره الفرد الذي يجد نفسه في مواجهة نسقين ثقافيين مختلفين تماماً في آن واحد، نسق جماعة انتمائه أو مجتمعه الأصلي من ناحية، ونسق المجتمع المضيف من ناحية أخرى، فتتولّد عن هذه المواجهة شخصية غير مستقرة لها سلوك مميّز، يسميها بارك "الرجل الهامشي" أو "الإنسان الهامشي".
هذا النمط الجديد من الشخصية هو هجين ثقافي، أي إنسان يعيش على هامش ثقافتين ومجتمعين ويشارك في الحياة الثقافية والاجتماعية لكليهما. فهو لا يرغب في التخلّي عن ماضيه وتقاليده من ناحية، ولم يُقبل تماماً (بسبب التحيّز العنصري) في المجتمع الجديد الذي يسعى لإيجاد مكان له فيه من ناحية أخرى.
السوري هو نموذج الإنسان الهامشي المعاصر بلا منازع أو "يهودي العصر الحديث" إن جاز التعبير
تتجلّى صورة الإنسان الهامشي تاريخياً ونموذجياً في شخص اليهودي، الذي يعتبر المتغرّب الأول والمواطن العالمي الأوّل، وهو بلا منازع "الغريب" حسب وصف سيميل. تحمل السير الذاتية للمهاجرين اليهود نسخاً مختلفة لنفس القصة، قصة الإنسان الهامشي الذي خرج من الحي اليهودي في أوروبا ساعياً لإيجاد مكان له في المدينة الأميركية (العالم الجديد) الأكثر حرية والأكثر تعقيداً وعالمية كذلك.
انتهى بارك من خلال دراسته هذه السير الذاتية، التي نُشرت في الولايات المتحدة الأميركية في القرن الفائت، إلى حتمية مرور الفرد المهاجر خلال عملية استيعاب الثقافة الجديدة بفترة من الاضطرابات الداخلية والوعي الذاتي المتوتر، والتي تتجلّى بالإحساس بالانشطار الأخلاقي "moral dichotomy"، إذ يتجاهل في هذه المرحلة العادات القديمة دون أن يُشكّل عادات جديدة بعد.
يتجلّى في ذهن الفرد المهاجر صراع الثقافات أيضاً، والذي يمثل في الواقع صراع الذات المنقسمة "the divided self"، أي الصراع بين الذات القديمة والذات الجديدة. وغالباً ما ينتهي هذا الصراع بشكل غير مرضٍ وبخيبة أمل عميقة، مثل التذبذب المتواصل بين مشاعر الدفء والأمان للحي الذي غادره، وبين الحرية الباردة للعالم الخارجي الذي لم يصبح موطنه بعد، أو الشعور المتضارب بالرضى في البلد الجديد مع غياب السعادة بسبب الحنين إلى الموطن الأوّل. وقد تكون آثار هذا الصراع لدى الأفراد شديدي الحساسية عميقة إلى الحدّ الذي قد تنشأ عنه تحوّلات نفسية وسلوكية جذرية تجاه موضوعات مختلفة، كالدين والحب والجنس والعائلة.
إنّ ما يميّز هذه الفترة الانتقالية التي يمر بها المهاجر عن الأزمات أو الفترات الانتقالية التي تحدث في حياة معظم الناس أنها عند المهاجر فترة أزمة دائمة نسبياً تُنتج نمطاً جديداً من الشخصية، شخصية تعيش في عالمين، في كليهما هي غريبة إلى هذا الحد أو ذاك.
اتفق إذن كل من سيميل وبارك في مقاربتيهما على أنّ أهم عامل يبرز دور الغريب هو رغبته بالبقاء. فإنّ ما يُميّز "السائح" أو "العامل الضيف" مثلاً عن الهامشي هو أنه يظل مرتبطاً بثقافة مجموعته العرقية، في حين يتسم الهامشي بالثقافة الثنائية، فلا يرغب الأول من وجهة نظر نفسية بالبقاء أو بالاستقرار في البلد المضيف، وبمجرد أن يفعل ذلك، يصبح هامشياً.
القطيعة التي تُنجّي
جدّد عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي روجي باستيد مقاربة المسألة الهامشية كما طرحها روبرت بارك، إذ عارض تصوّره المتشائم للهامشية الثقافية، فلا يعتبر باستيد الإنسان الهامشي "فرداً يعيش بين عالمين اجتماعيين وثقافيين مختلفيين، بل في كلا العالمين، من دون أن يصل أحدهما بالآخر". ويرى أنّ الهامشية الثقافية لا تتحوّل بالضرورة إلى هامشية نفسية، وأنّ الأفراد الذين يعيشون في تناقضات ثقافية قاهرة لا يتحوّلون بالضرورة في صيرورة التثاقف الخاصة بهم إلى كائنات تعيسة ومزدوجة وغير متأقلمة، بل ينجون عبر ما أسماه "مبدأ القطيعة" من الهامشية النفسية. فإن كان لا بد أن ينقسم الفرد إلى نصفين من وجهة نظر الهامشية، فيمكنه من وجهة نظر باستيد أن يُحدث "قطائع" تُمكّنه من المشاركة في التزاماته المختلفة دون أن تكون في ذلك دلالة تناقض جوهرية، إذ إنّ سلوكيات الفرد التي تبدو متناقضة ظاهرياً لا تعني بالضرورة أنه يعيش تناقضاً نفسياً مع ذاته.
لا تحدث القطيعة في المستوى الواعي من النفس فحسب، بل تؤثر على الأشكال اللاواعية منها أيضاً كالذاكرة والإدراك والعاطفة
لا تحدث القطيعة في المستوى الواعي من النفس فحسب، بل تؤثر على الأشكال اللاواعية منها أيضاً كالذاكرة والإدراك والعاطفة، وهذا يفسر الحالات التي يتغرّب فيها الذكاء، بينما تظلّ العاطفة أهلية أو العكس. ومثل ما تتفاوت حدّة الهامشية بحسب طبيعة الأفراد وطبيعة العلاقات بين الثقافات المتلاقية، فكذلك الأمر بالنسبة للقطيعة، ولذلك تتخذ الأقليات، التي تتبنّى عادات وقيم ثقافية مختلفة عن ثقافة الأغلبية السائدة بشكل خاص، من القطيعة وسيلة دفاعية عن هويتها الثقافية. فعلى سبيل المثال، يعمل مهاجرون أفارقة ينحدرون من مجتمعات مسلمة في أكبر مسالخ لحم الخنزير في فرنسا، دون أن يعتبروا أنّ في تماسهم اليومي مع لحم الخنزير مساساً بهويتهم الإسلامية التي يحرصون على صونها، بل يعتبرونه ضرورة من ضرورات العمل في الدول الرأسمالية ومجرّد وسيلة لكسب الدخل.
خلص باستيد إلى تقديم تصوّر شديد التفاؤل عن الأفراد الواقعين في هامشية ثقافية باعتبارهم شخصيات لها قدرة خاصة على التأقلم والخلق والإبداع، الأمر الذي قد تكون نجاحات السوريين المُدوّية في الخارج، في مختلف المجالات العلمية والأكاديمية والإبداعية، مثالاً واضحاً عليه.
ختاماً، يُمكن القول إنّ سمات كلّ من شخصية الغريب والشخصية الهامشية تظهر بشكل جليّ في شخصية الغريب السوري، فهو وإن كان يحلم ضمنياً بإمكانية العودة، إلا أنّ استحالة تحقيق الأمنية تجعله يرغب بالبقاء ويسعى إلى الاندماج في البلاد الجديدة من ناحية، في حين تمثل ثقافة المجتمعات التي يسعى إلى الاندماج فيها نقيضاً بيّناً لثقافته من ناحية أخرى، ما يجعله نموذج الإنسان الهامشي المعاصر بلا منازع أو "يهودي العصر الحديث" إن جاز التعبير. لكن السؤال الذي يبقى مفتوحاً للبحث وللزمن، هو ما إن كان سيتمكن، رغم ما تنطوي عليه عملية استيعاب الثقافات الجديدة التي يمر بها من مشاعر مؤلمة وصراعات واضطرابات داخلية، من إحداث قطائع تنجيه من وحش الهامشية النفسية؟ وهل يمكننا اعتبار نجاحاته مؤشراً أوّلياً على نجاته هذه أم أنّ باستيد بالغ في تفاؤله ولم ينتبه لعلاقة الإبداع والخلق بالقلق؟