الفاعل مرفوع إنه جارنا أبو إبراهيم
دائماً أنخدع بشخصية صديقي أبي النور، فأصدق حركاته وانفعالاته، وأتعاطف مع ما يريد أن يقوله لي، وأظل منخدعاً حتى نهاية القصة، وإذ ذاك أكتشف أنه كان "يمثّل" علي.. على عكس بعض الممثلين الفاشلين الذين نراهم إما على أرض الواقع أو على شاشة التلفزيون، فنكتشف، منذ اللحظة الأولى، أنهم يُمثلون علينا، ومهما قدموا من حركات بقصد إيهامنا بواقعية تصرفاتهم وكلامهم لا ينطلي الأمر علينا على الإطلاق.
قبل أيام دخلت على أبي النور فوجدته غاضباً مزمجراً، يحرق الإرَمّ، ويتشاجر مع ذباب وجهه، فلما رآني أحس وكأنه قد جاءه الفرج، فبادرني يقول:
- خلص أخي، خلص. كسرنا الدف، وأقلعنا عن الرقص. انظر (وقدم إليَّ ورقة مكتوبة بخطه الجميل) لقد كتبتُ استقالتي ووقعتها، وغداً في الصباح سوف أذهب إلى مديرية التربية والتعليم وأودعها في ديوان الأوراق. أخي، التعليم في هذه البلاد ينصح به لإحداث الجلطة للذين يريدون الانتحار والتخلص من عذاب هذه الحياة. ألم يقل أمير الشعراء أحمد شوقي: كاد المعلم أن يكون رسولا؟
قلت: بلى. هذا ما جاء في قصيدته الشهيرة.
قال: أخي، أنا بالعربي الفصيح لا أؤيده، بل أنا مع الشاعر الذي عارضه (وأظنه إبراهيم طوقان) حيث يقول:
يا مَنْ أردتَ الانتحارَ بَلَغْتَهُ
إن المعلمَ لا يعيشُ طويلا
وأضاف: وأنا من جهتي، لو كنت شاعراً لعارضتُ الإثنين مستخدماً كلمات للروي من قبيل (هبيلا– سطيلا– خبيلا- عليلا)!
قلت: رويدك يا أبا النور، إنك تجور على المعلمين وأنت حتى الآن لم تستقل، أي أنك تهجو نفسك من حيث لا تدري.
قال: بل أنا أهجو الواقع الذي نعيشه، والغباء المستحكم في الناس والأجيال الصاعدة، الواعدة. يا رجل، أنا أعلم طلاب صفي مادة اللغة العربية التي يفترض أنهم رضعوها مع حليب أمهاتهم.. ومع هذا بمجرد ما أشرح لهم درساً فيها يفتحون أفواههم ويرخون مفاصلهم من دهشة وتعجب، وكأنني أحدثهم بالسنسكريتية. هل يوجد مفهوم أكثر وضوحاً من مفهوم (الفاعل) في الجملة الفعلية؟ تصور: جئتهم بأمثلة من الواقع، من قبيل، غش الطالبُ في الامتحان، كذب السياسي في خطابه، اختلس أحد الموظفين أموال الشعب.. وسألت أحدهم، واسمه عبود: أين الفاعل في الجمل الثلاث يا عبود؟ وقف عبود وقال لي: الفاعل هو جارنا أبو إبراهيم!
ما لك علي يمين يا أبا المراديس، هذا الكلام أطار ضبانات عقلي. قلت له: كيف؟ قال لي: يا أستاذ، أمي سألت جارتنا أم إبراهيم ماذا يعمل زوجك؟ فقالت: إنه يعمل بصفة (فاعل مياوم).
تحاملت على نفسي، مع أنني كدت أفقع من الغيظ، وقلت لعبود: حسناً يا بني، هو يفعل فهو فاعل. اتفقنا.
وبعد أيام فقط سألته عن إعراب الفاعل في جملة أخرى، فقال: جارنا أبو إبراهيم.
ههنا انقلب غيظ أبي النور إلى ضحك شفيف وقال: بصراحة يا أبا المراديس أنا أعجبتني هذه النغمة، فصرت كلما عترس هذا الطالب في إعراب الفاعل في جملة ما أقول له: جاركم أبو إبراهيم. فيقول لي على الفور: فاعل.
إلى أن جاء يوم، وأنا في الصف أضابح مع طلابي في تعليمهم اللغة العربية، وإذا بالباب ينقر، ويدخل علينا مفتش قادم من العاصمة يريد أن يقف على مستوى تعليم العربية في مدارسنا العتيدة. وعلى الفور طلب مني أن أعطي الطلاب الدرس المقرر خلال ربع ساعة، ثم أقف جانباً، ففعلت، ودخل هو في حوار مع الطلاب حواراً شاملاً متنوعاً. ولعله من باب النكد وسوء الطالع أن يتوجه بالسؤال إلى الطالب عبود، وسأله السؤال المؤرق نفسه عن إعراب الفاعل في جملة ما. عبود – على حد تعبير إميل حبيبي – خَـشَّب، وصمت وكأنه أخرس. أنا وقفت وراء المفتش ورحت أهمس له قائلاً (جاركم أبو إبراهيم، جاركم أبو إبراهيم!) ولكنه لم يرد. هل تحزر ماذا قال لي ذلك المنحوس بحضور المفتش؟
قلت: ماذا؟
قال: التفت إلي وقال لي، يا أستاذ، نسيت أن أخبرك أن جارنا أبا إبراهيم الذي يعمل بصفة (فاعل)، انتقل من جوارنا، وقد علمت أنه حصل على وظيفة إدارية في مؤسسة حكومية ولم يعد يعمل بصفة (فاعل مياوم)!