الفضاءُ الرقميّ والهيمنة الذكورية
مثّلتْ "الفجوة الرقمية الجندرية" تحديًّا فعليًّا أمام الشابّاتِ اللواتي حاولنْ إثبات ذواتهن وامتلاكَ معرفةٍ تُمكنّهن من منافسةِ الرجال، كما أنّهن حرصن على تغيير الصور النمطية التي تربط الرجل بالتكنولوجيا (العقل) وتصل النساء بالعاطفة (نقصان العقل). وبناءً على هذا التطوّر في مستوى علاقةِ النساء بالعلوم الصحيحة/الصلبة كالتكنولوجيا والثقافة الرقمية والذكاء الاصطناعي، اعتُبرت سِير نجاح الشابّات في مختلف المجالات التكنولوجية وحضورهن بأعدادٍ كبيرة في الفضاء الرقمي موضوعًا أثيرًا لدى أغلب وسائل الإعلام.
وقد تطوّر شغفُ الشابّات والنساء بالفضاء الرقمي بعد "دمقرطته"، ليغدو مُعمّمًا على فئاتٍ أخرى، إذ أقبلت الناشطات على استعمالِ هذا الفضاء الرقمي لصالحِ تحقيق مطالب الحركة النسويّة. فنظّمن الحملات وعبّرن عن مواقفهن من عدّة قضايا، وكتبن حول مواضيع تشمل علاقتهن بالدولة والقوانين ورؤيتهن للسياسات العامّة وأشكال مواجهتهن للمجتمع البطريكي وغيرها.
ولكن ما كان يجري بخلدِ الناشطات أن يتحولّن من ''فاعلاتٍ'' في الفضاء الرقمي إلى "ضحايا" يروين قصص تعرّضهن للعنفِ الرقمي. فبعد أن كنّ يُدرّبن الفتيات على شروطِ استعمالِ الفضاء الرقمي الآمن، وطرائق "حفظ النفس"، ووسائل تحقيق السلامة الرقمية والأمن السيبراني، صرن غير قادرات على حمايةِ أنفسهن من التحرّش الرقمي، والقنصِ الرقمي، والابتزازِ الرقمي وتشويه السمعة... وبعد أن كنّ يُشجّعن الضحايا على الصمودِ ومواجهةِ الموقف، قانونيًّا واجتماعيًا، ويُحفزّنهن على حضورِ دورات الدعم النفسي، أضحين قلقات، يتملّكهن الخوف، فيؤثرن العزلة على الاختلاطِ بالآخرين.
وبعد أن كنّ يمدحن فضائل النشاطية الرقمية، بتنَّ أكثر ميلًا إلى الحديث عن البعدِ البشعِ للتفاعلِ في الفضاء الرقمي، وعن أنماطِ السلوكِ والعلاقات المؤذية السائدة فيه، بل وصل الأمر إلى اتّخاذِ بعضهن قرار غلقِ حساباتهن أو العدول عن التفاعلِ وكتابةِ التدوينات والتعليقِ على أيّة قضيةٍ والاكتفاء بالمتابعة "السلبية" والفرجة.
شيوع عبارات وألفاظ مُجَنسنة تُتداول في الحياة اليومية تروم ترويع الشابّات وتأديبهن وتصميتهن وإقصاءهن من الفضاء الرقمي
إنّ ما يسترعي الانتباه في هذه التحوّلات التي نُعاينها في مستوى السلوك، وبناء العلاقات بين الجنسين، ومنظومة القيم، وطرائق ردّ الفعل وغيرها، هيمنة المعجم الحربي/ العسكري على الفضاء الرقمي. فنحن إزاء مواجهات وهجوم وحرب وتهديدات واختراق وتحالفات وهدنة مؤقتة وغيرها. يُضاف إلى ذلك شيوع عبارات وألفاظ مُجَنسنة تُتداول في الحياة اليومية تروم ترويع الشابّات وتأديبهن وتصميتهن وإقصاءهن من هذا الفضاء الذي يُنظر إليه على أنّه حكرٌ على الرجال، لا سيما بعد بروزِ أشكالِ تنظّمٍ جديدة للمجموعات الكارهةِ للنساء.
وهكذا تحوّل الفضاء الرقمي عند أغلبهم إلى فضاءٍ لممارسة الهيمنة الذكورية وشتّى أشكال العنف وبناء علاقات القوّة، وكلّ ذلك من أجل النيل من مكتسباتِ النساء، والحدّ من فاعليتهن، وتقليص حضورهن. فالمنشود هو الحضور المحتشم للنساء ''المحترمات''، ''المصونات''، "العفيفات"، "الحارسات" القيمَ والمعايير التي أرساها المجتمع الذكوري. ونشير في هذا الصدد إلى اللواتي يُمارسن الدعوة أو يسعين إلى تهذيبِ سلوكِ الأخريات ووعظهن. ويترتّب عن هذا التوزيع ترسيخ تراتبية بين المستعملات اَلفضاء الرقمي، فإمّا أن يكون الولوج حسب الشروط التي حدّدها الرجال المُهيمنين على هذا الفضاء والامتثال للأنموذج الأنثوي الذي يرغب هؤلاء في الترويجِ له أو تُشنّ الحرب على "سليطات اللسان" اللواتي يأبينْ الخضوع والتسليم بوجوبِ الطاعة.
وانطلاقًا من هذا الواقع، يغدو رهان الصراع بين الفاعلين والفاعلاتِ قائمًا على أساسِ السلطة: من يملك سلطة التحكّم في الفضاء الرقمي وتحديد وظيفته وأهدافه؟ فالقوى المعادية لحقوقِ النساء ترى في هذا الفضاء وسيلةً لتنميطِ النساء واستغلالهن وترويضهن وتأديبهن...، بينما تُصرّ الناشطات على حقّهن في ممارسة نشاطيتهن في كلّ الأفضية، بما فيها الفضاء الرقمي، ويعتقدن أنّ نشاطيّتهن في هذا الفضاء هي امتداد لنشاطيّتهن في الواقعِ اليومي، وهي وسيلة مهمّة لمقاومة النُظم الأبوية والتسلطيّة وفضحِ بنى الهيمنة وتقاطعها...