الفلسفة في التعليم: تعزيز النقد والتغيير في عالم معاصر

13 نوفمبر 2024
+ الخط -

على مدار العصور، كانت الفلسفة مرشدًا فكريًا للبشرية في مساعيها لفهم الوجود والمعرفة والقيم. ومع تطوّر الفكر الإنساني، أصبح للعلم والتعليم مكانة بارزة في صياغة مجتمعات أكثر تقدّمًا. وإذا كانت الفلسفة قد نشأت أداةً للتأمل النقدي في الأسئلة الكبرى حول الحياة والمجتمع، فإنّها لا تزال تُعتبر مفتاحًا رئيسيًا لفهم أبعاد أعمق للتعليم. ولكن كيف يمكن لهذه العلاقة المعقدة بين الفلسفة والتعليم أن تُترجم إلى واقع عملي في الفصول الدراسية؟ وهل يمكننا أن نطرح تساؤلات عن إمكانية دمج الفلسفة بشكلٍ فعّال في النظام التعليمي المعاصر؟

الفلسفة كأداة لتطوير التفكير النقدي في التعليم

تُعتبر الفلسفة حجر الزاوية في تعزيز التفكير النقدي، وهو ما يُعدّ جوهر العملية التعليمية الحقيقية. من خلال طرح الأسئلة الجوهرية مثل: ما هي الحقيقة؟ وهل يمكن للإنسان أن يمتلك معرفة مطلقة؟ وما معنى العدالة؟... وهنا تفتح الفلسفة أمام الطلاب آفاقًا لفحص الواقع من زوايا مختلفة. هذا النوع من التفكير يعزّز لديهم القدرة على التفكير المستقل وتحليل الظواهر والمواقف بعمق.

في هذا السياق، يشير الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت، إلى أنّ "الشك هو بداية الفلسفة"، ما يبرز أهمية التشكيك في الثوابت، باعتباره وسيلة لتوليد المعرفة الحقيقية. فبدلاً من قبول الحقائق المقرّرة، يدعو ديكارت إلى التفكير بشكلٍ نقدي وتفكيك المعتقدات السائدة بهدف الوصول إلى الحقيقة من خلال العقل والمنطق. وهذا بالضبط ما يجب أن يسعى التعليم لتحفيزه؛ التفكير النقدي الذي يدفع الطلاب إلى التساؤل وإعادة تقييم المفاهيم بدلاً من تلقيها بسطحية.

تُعتبر الفلسفة حجر الزاوية في تعزيز التفكير النقدي، وهو ما يُعدّ جوهر العملية التعليمية الحقيقية

أيضًا، جون ديوي، أحد روّاد الفلسفة البراغماتية، أكد أنّ التعليم يجب أن يكون تجربة تفاعلية بين الفرد وبيئته. فهو يرى أنّ المعرفة لا تُستوعب فقط من خلال التلقين، بل تُكتسب من خلال التجربة والمشاركة الفعّالة. ومن خلال هذه التجربة العملية، يتعلّم الطلاب التفكير النقدي والتفاعل مع الواقع بطرق جديدة. وأشار ديوي إلى أنّ التعلّم يجب أن يُبنى على استفساراتِ الطلاب وأسئلتهم، ما يعزّز من قدرتهم على تحليل العالم من حولهم.

الفلسفة وتعزيز القيم الإنسانية في التعليم

إلى جانب تعزيز التفكير النقدي، توفر الفلسفة أيضًا إطارًا قيمياً غنيًا يُساهم في تطوير الطلاب على مستوى أخلاقي وإنساني. فالأسئلة الفلسفية عن القيم، مثل ماذا يعني أن تكون إنسانًا صالحًا؟ أو ما هو الخير؟ تساعد الطلاب في التعرّف إلى مبادئ الأخلاق والعدالة والمساواة.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يُعتبر من أبرز من كتبوا عن الأخلاق في الفلسفة الغربية، حيث قال: "العقل هو النبع الوحيد للأخلاق". يُبرز كانط في فلسفته الأخلاقية أنّ البشر يجب أن يتصرّفوا وفقًا للمبادئ التي يمكن أن تُعمّم على جميع الناس في جميع الظروف، وهو ما يُعرف بمبدأ "الواجب". من خلال هذا المبدأ، يشدّد كانط على أهمية أن يكون التعليم مرشدًا للطلاب، ليس فقط إلى المعرفة، بل أيضًا إلى اتخاذ قرارات أخلاقية مستنيرة.

تفتح الفلسفة أمام الطلاب آفاقًا لفحص الواقع من زوايا مختلفة

كذلك يتوافق هذا مع رؤية الفيلسوف البريطاني جون رولز الذي قدّم في "نظرية العدالة" مبدأ العدالة باعتبارها مساواةً، حيث يرى أنّ النظام الاجتماعي المثالي يجب أن يسعى لتحقيق العدالة لجميع الأفراد، خصوصاً الأكثر ضعفًا في المجتمع. يمكن من خلال تدريس هذه الفلسفات أن يتعلّم الطلاب كيف يمكنهم تطبيق القيم الأخلاقية في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، وأنّهم ليسوا مجرّد متلقين للمعرفة، بل أيضًا نشطاء في تحسين العالم من حولهم.

الإشكاليات والانتقادات.. هل الفلسفة تقيّد الإبداع؟

رغم الفوائد الكبيرة التي تقدّمها الفلسفة في مجال التعليم، فإنّ هناك من يرى أنها قد تُقيّد الإبداع والتفكير الحر. قد يتساءل البعض: هل تُسهم الفلسفة في تعزيز التفكير الإبداعي، أم أنّها تضع حدودًا لهذا التفكير؟ قد تكون بعض المناهج الفلسفية التقليدية التي تركز على نصوص قديمة وأفكار فلاسفة معينين، بعيدة عن الواقع المعاصر، وتفتقر إلى الارتباط بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها الطلاب في حياتهم اليومية.

في هذا السياق، يقول الفيلسوف، ميشيل فوكو، إنّ التعليم التقليدي غالبًا ما يُنتج "مواطنين طيعين" يخضعون للمعايير الاجتماعية والثقافية السائدة، ما يعوق التفكير المستقل والإبداع. فوفقًا لفوكو، قد تساهم الفلسفة التقليدية في تعزيز الفكر النمطي، بدلاً من تشجيع الطلاب على التفكير خارج الصندوق. هذه الرؤية تطرح تساؤلات عن كيفية تطوير مناهج تعليمية تكون مرنة، وقادرة على تعزيز التفكير النقدي والإبداعي دون أن تقتصر على التقليد والتلقين.

الفلسفة والتعليم في عصر التكنولوجيا.. آفاق جديدة

في ظلِّ الثورة الرقمية والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا في التعليم، تبرز تساؤلات جديدة عن كيفية دمج الفلسفة في مناهج تعليمية تعتمد أساساً على التقنيات الحديثة. في هذا السياق، لا يمكن تجاهل دور الفلسفة في تطوير المهارات الفكرية اللازمة للتعامل مع هذه التقنيات بشكل نقدي. فالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، يطرح أسئلة فلسفية جديدة عن الطبيعة الإنسانية، والخصوصية، والأخلاقيات في التعامل مع التكنولوجيا.

الفلسفة ليست مجرّد أداة تعليمية تقليدية، بل هي مفتاح لفهم أعمق للمعرفة والحياة

يشير الفيلسوف يورغن هابرماس إلى أنّ التقدّم التكنولوجي يجب أن يُنظر إليه من خلال منظور أخلاقي واجتماعي. فالتطورات التكنولوجية ليست مجرّد تقدّم علمي، بل هي جزء من تحوّل اجتماعي يتطلّب التفاعل النقدي مع قيم الإنسان وحقوقه. وفقًا لهابرماس، يجب أن يُدمج التفكير الفلسفي في الحوار حول التكنولوجيا لضمان استخدامها بشكل يعزّز من حرية الأفراد وكرامتهم، بدلاً من أن يصبح أداةً للتسلّط أو للتهديد بالخصوصية.

الفلسفة دافعاً للتغيير الاجتماعي

أحد الأبعاد التي تُغفل أحيانًا في مناقشة الفلسفة في التعليم، قدرتها على تحفيز التغيير الاجتماعي. ففي العديد من الثقافات، كانت الفلسفة المحرّك الأساسي للتحولات الاجتماعية الكبرى. على سبيل المثال، الفكر الفلسفي كان له دور محوري في حركات التغيير في القرن العشرين، مثل الحركات الحقوقية وحركات التحرّر. اليوم، يمكن للفلسفة أن تكون أداة قوية في مواجهة القضايا المعاصرة مثل التغيّر المناخي، والعدالة الاقتصادية، وقضايا الهجرة.

إدراج الفلسفة في التعليم لا يعني فقط تعزيز التفكير النقدي والأخلاقي، بل يمكن أن يكون بمثابة منصّة تحفيز للطلاب للتفاعل مع القضايا الكبرى التي تواجه العالم اليوم. من خلال مناقشة القيم الاجتماعية والسياسية، يمكن أن يلعب التعليم الفلسفي دورًا أساسيًا في تحفيز الجيل القادم على التفكير في طرق جديدة لتحقيق التغيير الإيجابي في مجتمعاتهم.

في النهاية، الفلسفة ليست مجرّد أداة تعليمية تقليدية، بل هي مفتاح لفهم أعمق للمعرفة والحياة. ومن خلال دمج الفلسفة في التعليم، يمكننا تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي، وتعزيز قيم العدالة والمساواة، وفتح آفاق جديدة لفهم التحديات المعاصرة. ولكن من المهم أن ندرك أنّ الفلسفة في التعليم ليست خالية من التحديات، حيث يتطلب الأمر إعادة التفكير في كيفية دمجها بشكلٍ فعال في المناهج المعاصرة بما يتماشى مع احتياجات الجيل الجديد.

فالفلسفة، إذا استُخدِمَت بشكل متوازن ومدروس، يمكن أن تكون قوّة دافعة نحو تعليم أكثر وعيًا، وتفكيرًا أعمق، وابتكارًا أكبر، ما يساعد على تشكيل عقول قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

طرائف موسى
طرائف موسى
طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية بيروت/ العمادة، تخصّص فلسفة وتحضر الآن رسالة الماجستير مسار الإرشاد الفلسفي. عملت سابقا، كمعلمة في لجنة الإنقاذ الدولية وتعمل الآن عاملة توعية في لجنة الانقاذ الدولية.