القرار 1559 بين الإنكار والحماسة المفرطة لتطبيقه

26 أكتوبر 2024
+ الخط -

ابتداء من 23 أيلول الماضي، شهدت الحرب الدائرة منذ 8 أكتوبر 2023 بين حزب اللّه وإسرائيل ارتفاعا كبيرا في حدتها، سقطت بفعله أوهام سردية "قواعد الاشتباك"، التي كان يرددها حزب اللّه ومن يدور في فلكه، كضمانة ("قانونية") لعدم تحوّل الحرب من حربٍ منخفضة أو متوسّطة الحدّة (محدودة)، إلى حربٍ مرتفعة الحدّة (شاملةـ راجع مقال "السيادة اللبنانيّة في ضياعها ثلاثي الأضلع"، العربي الجديد ـ مدونات، 21/08/2024).

وقد جاءت توسعة الحرب من قبل الطرف الإسرائيلي بحدة مفرطة وبشكل واسع النطاق، مترافقة مع ارتكاب الجيش الإسرائيلي لانتهاكات كثيفة للقانون الدولي الإنساني في لبنان، ولا سيما جرائم حرب، مما يجعل الأمور تتخطى بأشواط حدود "الدفاع المشروع عن النفس" بوجه حزب اللّه (إذ ينتهك الجيش الإسرائيلي مبدأي التناسب والضرورة في الدفاع المشروع عن النفس، وذلك حتى لو سلمنا جدلا أنّ لإسرائيل هذا الحق بوجه الحزب)، لتشكّل عدوانا ضد دولة ذات سيادة، اسمها لبنان.

على وقع ما تقدم ذكره، يدور سجال بين القوى السياسية اللبنانية حول تطبيق القرار 1559. ففي حين تطالب قوى وأحزاب تصف نفسها بـ"السيادية"، بضرورة تطبيق الـ1559 فورا ودون تأخير، وبشكل يترافق مع الشروع بتطبيق القرار 1701، ترفض قوى أخرى، كالثنائي الشيعي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وغيرهم، بالمقابل، تطبيق القرار 1559، لا بل وتعتبره ساقطا، وتشدد غالبا على الاكتفاء بتطبيق القرار 1701 وحده، بجميع مندرجاته، على أن يتم في المستقبل تطبيق اتفاق الطائف كاملا، بما فيه البنود المتعلقة بحل المليشيات ونزع سلاحها وتسليمه للدولة اللبنانية.

التعريف بالقرارين 1701 و1559

صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 11 آب 2006، لوقف الحرب التي كانت دائرة بين إسرائيل وحزب اللّه، وهو قرار يطالب من خلاله مجلس الأمن بوقف الأعمال القتالية من قبل جانبي النزاع، تمهيدا لما يسميه وقفا دائما لإطلاق النار وإيجاد حل طويل الأجل. وبحسب القرار 1701، يلي وقف الأعمال القتالية مباشرة نشر الجيش اللبناني، وقوات يونيفيل (التي يزيد الـ1701 عديدها لـ15 ألف عسكري) ـ بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية ـ في جميع أنحاء الجنوب، وانسحاب جميع القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان بشكل مواز.

في البند الثامن من القرار 1701، يدعو مجلس الأمن طرفي النزاع للاحترام التام للخط الأزرق، كما يحدد ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية، وأهمها إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة إلا ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، مشددا على منع وجود قوات أجنبية في لبنان دون موافقة حكومته، وعلى منع مبيعات أو إمدادات الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان عدا ما تأذن به حكومته.

أما القرار 1559، فصدر عن مجلس الأمن قبل سنتين من صدور القرار 1701، تحديدا في 2 أيلول 2004، وذلك بهدف ما يسميه القرار 1559 "استعادة لبنان لسلامته الإقليمية وكامل سيادته واستقلاله السياسي". يطالب الـ1559 جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان (والمقصود بذلك وقتئذ الجيش السوري الذي كان ما زال في لبنان)، كما يدعو إلى حل جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، ويؤيد بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية.

 

إلزامية القرار 1559

قانونيا، وبشكل عام، لا يوجد شيء اسمه "موافقة" أو "عدم موافقة" دولة عضو في الأمم المتحدة على تطبيق قرار صادر عن مجلس الأمن، وذلك بعكس ما يتم ترداده من قبل بعض الأوساط اللبنانية بأنّ "لبنان غير موافق على تطبيق الـ1559". فبحسب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، "يتعهد أعضاء "الأمم المتحدة" بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق"، وتكون بذلك قرارات مجلس الأمن إلزامية للدول الأعضاء، وذلك بعكس قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة. بكلام آخر، إن تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، ومن ضمنها القرار 1559، ليس اختياريا، والمسألة ليست كقائمة الطعام التي يمكن الانتقاء من ضمنها ما نريد تطبيقه، وما لا نريد تطبيقه. لبنان ملزم بتطبيق قرارات مجلس الامن المتعلقة به ـ كل قرارات مجلس الأمن المتعلقة به ـ دون انتقائية أو نقصان.

فضلا عما تقدم، وبشكل أكثر خصوصية بالـ 1559، يذكر القرار 1701 أربع مرات القرار 1559 (بالإضافة إلى القرار 1680 المتعلق بشكل أساسي بتحديد الحدود المشتركة بين لبنان وسورية)، وذلك في متنه، وفي البنود 3 و8 و10، مؤكدا (أي الـ1701)، في كل مرة من هذه المرات الأربع، على وجوب تطبيق هذين القرارين (1559 و1680). وعليه، فإنّ تطبيق القرار 1701 لا يُسقِط تطبيق القرار 1559، بل العكس تماما. الـ1701 لا "يحل محل" الـ1559، ولا "يلغي" الـ1559، ولا يجعل الـ1559 "متقادما" (مرور الزمن).

إنّ القرارين 1559 و1701 متكاملان ومتلازمان إلى حد بعيد، فتطبيق القرار 1559 هو شرط لفعالية الـ1701 على المدى البعيد، وهذا أصلا ما أثبتته الاحداث منذ 2006، ولا سيما مع هيمنة حزب اللّه على قرار الحكومة اللبنانية بسبب عدم تطبيق القرار 1559، ما أتاح له التفرد، مرة جديدة، بقرار الحرب خارج مؤسّسات الدولة، وخارج الأطر الدستوريّة، منتهكا القرار 1701 (هذا مع العلم انّ إسرائيل أيضا انتهكت الـ1701 عدة مرات)، وقد تماهت الحكومة اللبنانية الحالية معه عمليا، وأمنت التغطية السياسية له.

إنّ القرارين 1559 و1701 متكاملان ومتلازمان إلى حد بعيد، فتطبيق القرار 1559 هو شرط لفعالية الـ1701 على المدى البعيد

 ضرورة عدم إفراغ الـ1559 من روحيته وتحويره عن مبتغاه السيادي

ولكن، من جهة أخرى، هذا لا يعني أنه بالإمكان الخلط بين القرارين 1701 و1559 (هما قراران مختلفان)، أو اعتبار انّ تطبيق القرار 1559 يشكل شرطا مسبقا للشروع بتطبيق القرار 1701؛ أي من الخطأ القول إنه لا يمكن البدء بتطبيق الـ1701 دون تطبيق الـ1559، وذلك لسببين رئيسيين.

أولا، يطلب البند العاشر من القرار 1701، بشكل صريح وواضح، من الأمين العام للأمم المتحدة، "أن يضع، من خلال الاتصال بالعناصر الفاعلة الرئيسية الدولية والأطراف المعنية، مقترحات لتنفيذ الأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، والقرارين 1559 (2004) و1680 (2006)، بما في ذلك نزع السلاح، ولترسيم الحدود الدولية للبنان، لا سيما في مناطق الحدود المتنازع عليها أو غير المؤكدة، بما في ذلك معالجة مسألة منطقة مزارع شبعا، وعرض تلك المقترحات على مجلس الأمن في غضون ثلاثين يوما"، بكلام آخر، يشكل هذا البند من القرار 1701 اعترافا ضمنيا بأن تطبيق الـ1559 سوف يكون في فترة لاحقة على الشروع بتطبيق الـ1701.

ثانيا، يبقى الأهم أنّ البند الثاني من القرار 1701 "يطالب حكومة إسرائيل بسحب جميع قواتها من جنوب لبنان بشكل مواز عندما يبدأ ذلك النشر"، أي بشكل مواز لنشر الجيش اللبناني وقوات يونيفيل معا في جميع أنحاء الجنوب، وذلك بعد توقف الأعمال القتالية بشكل تام. بكلام آخر، لا يشترط الـ1701، بأي حال من الأحوال، أن يتم تنفيذ القرار 1559 في ظل انتهاك إسرائيل لسيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه بفعل عدوان ترتكبه ضده. إنّ تطبيق الـ1559 يكون بعد توقف الأعمال القتالية، وبعد خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان، أي بعد الشروع بتطبيق الـ1701 الذي نص صراحة على وقف الأعمال القتالية وعلى هذا الانسحاب الإسرائيلي، لا في ظل الوجود الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية بما ينتهك سيادته، واستقلاله، وسلامة أراضيه.

وهذا أمر منطقي تماماً من الناحية القانونية، فإنّ بسط سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، وحل المليشيات، أولاهما الـ1559 للحكومة اللبنانية وحدها، وليس لأي دولة أخرى أو اي طرف خارجي، فلا يمكن أن يحصل ذلك تحت ضغط عدو ينتهك بشكل سافر سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه. إنّ تطبيق الـ1559 في ظل انتهاك اسرائيل لما سلف يشكل إفراغا للـ1559 من روحيته، وتحويرا للـ1559 عن مبتغاه، ألا وهو استعادة لبنان لسيادته، ولا سيما بشقها "الداخلي". من غير المنطقي قانونيا أن يُطالَب لبنان باستعادة سيادته بشقها "الداخلي"، في حين انّ سيادته منتهكة بشقها "الخارجي" بفعل عدوان إسرائيلي عليه، وتحت ضغط هذا الانتهاك (الأمور تخطت "الدفاع المشروع عن النفس" بوجه حزب اللّه، وأصبحت تشكل عدوانا على لبنان، كما بينا ذلك آنفا).

قد تم وضع القرار 1559 بهدف استعادة السيادة اللبنانية داخليا، أي تمت صياغته لصالح لبنان وسيادته واستقلاله، فلا يجوز تحويل الـ1559 لإملاء لصالح اسرائيل الذي ينتهك جيشها سيادة لبنان. فمن الناحية المبدئية، إنّ المطالبة بأن يجري تطبيق الـ1559 في ظل عدوان خارجي على البلد، وفي ظل غزو بري (أقله للمناطق الحدودية في الجنوب)، ينطوي على تحويل قرار دولي، فيه مصلحة سيادية أكيدة للبنان، إلى مجرد إملاء لصالح إسرائيل التي ينتهك جيشها سيادة لبنان، وانصياعا لرغباتها. من الضروري أن يتنبه السياديون اللبنانيون إلى انه يجب أن تكون مطالبتهم بتسليم سلاح حزب اللّه بهدف استعادة سيادة الدولة اللبنانية، لا كرمى لعيون الإسرائيلي الذي ينتهك سيادة لبنان؛ فربما من المهم تذكير بعض من يتناسى، أنه حتى بنظر القانون الدولي، إسرائيل دولة عدوة للبنان، أقله حتى إشعار آخر، وليست فقط عدوة لحزب اللّه، وانّ ما ترتكبه لم يعد ينحصر "بدفاع مشروع" بوجه الحزب، بل أصبح يشكل عدوانا على لبنان.

إنّ استغلال الانتهاك الذي يقوم به الإسرائيلي لسيادة لبنان، بشقها "الخارجي"، من قبل أطراف داخلية في لبنان، بذريعة فرض سيادة الدولة اللبنانية بشقها "الداخلي"، هو أيضا عين الانتقائية السيادية، وتحوير للسيادية، وهو أمر لا يمت للسيادة بصلة.

التداعيات الداخلية لتنفيذ القرار 1559 في ظل أو بفعل عدوان إسرائيلي

أما من الناحية "الواقعية"، فإنّ تسليم السلاح للدولة اللبنانية في وقت حرب خارجية (ذات طابع دولي) وتحت ضغط حرب دائرة، يعني عمليا الاستسلام. إنّ مطالبة حزب اللّه أن يسلم، في عز المعركة (التي جرّ البلد إليها بفعل افتتاحه "حرب الإسناد" قبل ما يزيد على سنة من الآن)، سلاحه، أي من باب تطبيق الـ1559، هو عمليا مطالبة الحزب بالاستسلام؛ واستسلام الحزب ليس حلا واقعيا، أو منطقيا، أو قابلا للتطبيق، بل هو غالبا كلام لا يخلو من الكثير من الديماغوجية، والشعبوية، والأماني السخيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

يبقى الأخطر، وهو انّ لسلاح حزب اللّه بُعدا طائفيا داخليا لبنانيا لا ينفع إنكاره (حتى لو هو أمر مستنكر). فإذا ضغطت الدولة اللبنانية، أو أطراف لبنانية معينة، على حزب اللّه ليسلم سلاحه في هذه الحرب الدائرة (وهذا أمر مستبعد حصوله لأن الدولة ضعيفة)، سوف يعتبر جزء كبير من شيعة لبنان انّ الدولة اللبنانية، أو الطوائف الأخرى، قد طعنتهم في الظهر، أي سوف يعتبرون انّ جزءا من الداخل اللبناني استغل الهمجية الإسرائيلية من أجل تصفية حسابات داخلية سياسية طائفية، وأنّ أطرافا لبنانية استفادت من الوحشية الإسرائيلية من أجل الانقضاض على مكون لبناني وفرض معادلة غالب ومغلوب جديدة، وهو أمر ـ إن حصل ـ سيرتد سلبيا جدا على العلاقات بين المكونات اللبنانية، وينذر بمخاطر داخلية جمة، وانقسامات سياسية وطائفية كبيرة، أي كما حصل في فترة 1983ـ1984 من "انتفاضات" على حكم الرئيس أمين الجميل في "المنطقة الغربية".  

فأي لبنان يمكن بناؤه بعد ذلك؟ وماذا سيقال للبنانيين الشيعة بعد ذلك؟ أنّ دولتهم تواطأت مع العدو ضدهم؟ ربما يتناسى البعض انّ شيعة لبنان وحزب اللّه ليسوا منظمة التحرير الفلسطينية، أي انهم لن يغادروا لبنان بعد انتهاء الحرب الدائرة حاليا، كما حصل مع منظمة التحرير بعيد اجتياح سنة 1982. فضلا عن ذلك، فإنّ هكذا "استفادة" لن تكون عمليا من انكسار الحزب فحسب، بل سوف تكون أيضا، بجزء معتبر منها، من انكسار لبنان أمام إسرائيل، ولا سيما بفعل غزو أراضيه، أو احتلال جزء منها. إنّ الاستفادة من انكسار لبنان أمام إسرائيل، فقط من أجل تغيير المعادلة الداخلية، هو كالحية التي تأكل ذيلها. لا تبنى الأوطان بذهنية كذهنية الحزب الذي استغل حروبه السابقة من أجل فرض معادلات استقواء في الداخل اللبناني، ولا بذهنية من يريدنا أن نتشبه بذهنية الحزب في استغلال ما يجري من أجل تصفية حسابات داخلية معه ومع بيئته.

بالمحصلة، الأولوية الآن لتطبيق القرار 1701 لأنّ هذا القرار هو الذي بإمكانه وقف الحرب، وذلك على أن يجري استكمال فعالية الـ1701 عبر تطبيق الـ1559، ولكن بعد وقف الأعمال القتالية والانسحاب الإسرائيلي الموازي لنشر الجيش اللبناني وقوات يونيفيل في الجنوب ـ كما ينص على ذلك الـ1701.

يبقى ترقب التسوية السياسية، التي من المفترض أن تنتج اتفاقا معينا، من خلال مفاوضات غير مباشرة يبدو انها جارية بين طرفي النزاع، من أجل وقف الأعمال القتالية، أي كما ينص على ذلك أصلا وبشكل صريح القرار 1701، ما يفتح الباب عمليا لتنفيذ بنوده الأخرى. أما أي تعديل في القرار 1701، فيتطلب صدور قرار جديد عن مجلس الأمن، وهو أمر دونه عقبات، ولا سيما بوجود حق الفيتو للدول الخمس دائمة العضوية في المجلس.