الكارثية السياسية ونرد ترامب

12 نوفمبر 2024
+ الخط -

تابعت على شاشة قناةٍ غربية ناطقة بالعربية نقاشًا في اتجاه واحد بين خبيرين، حيث ركّز (النقاش) على مدى خطورة وكارثية انتخاب دونالد ترامب مجدّدًا. صحيح، لا يَخفى على أحد (حتى لمراقب عادي مثلي) أنّ ترامب يمكن أن تُنظم في مساوئه معلّقات تغطي أستار البيت الأبيض. ومع ذلك، يبدو لي أنّ الذين يروّجون الواقعية السياسية وإكسسوارات الديمقراطية الغربية وما زالوا يتدثرون بعباءة الأوبامية، لا يستطيعون الهروب من تحمّل مسؤوليات الطرف المقابل الكارثية، وعلى رأسها استشهاد حوالي 44 ألف مدني في غزّة حتى اللحظة، بموازاة عشرات القضايا على المسرح الدولي التي ضربت أسس قواعد النظام الذي روّجه مُدّعو الديمقراطية تاريخيًّا، وهو أمر يدعو إلى التحليل والتساؤل حول شرعية اعتبار إدارة بايدن وهاريس أقلّ كارثية من أيّ شيطان آخر يمكن أن يتربّع على عرش المكتب البيضاوي. 

إنّ قتل هذا العدد من المدنيين والاستمرار في حصار وقتل أكثر من مليوني فلسطيني، وتكرار الاعتداءات على لبنان جريمةٌ لا تساويها في البشاعة أيّ من الجرائم التي يُلام عليها ترامب، على الأقلّ حتى هذه اللحظة. فإذا كان هذا المشهد الدموي المرعب غير كافٍ لأعزائنا الأكاديميين والمحلّلين العرب لإعادة النظر في موقفهم من السياسات والسياسيين الأميركيين، فما هو إذًا؟ كيف يمكنهم تجاهل تنصّل الحكومات الغربية من المواثيق الدولية ودعمها الواضح لإبادة جماعية تُنفذ على مرأى ومسمع من العالم؟ أليس هذا نفاقًا مكشوفًا وكارثية سياسيّة تهدّد النظام العالمي المزعوم؟ أم أنّ هؤلاء المحلّلين على شاشات التلفاز اختاروا ببساطة أن يغمضوا أعينهم عن "شياطين الأوبامية"، مردّدين كلامهم الغثّ المُعتاد، متغافلين عن الدماء الفلسطينية واللبنانية المسفوكة؟

التناقض في مواقف هؤلاء المحللين والمفكرين يثير السخرية. ففي الوقت الذي يملؤون الشاشات بالحديث عن الحقوق والقضايا، لا تبدي طروحاتهم أيّ اكتراثٍ حقيقي لما يحدث على أرض الواقع. ومن المؤسف أنّ أمثال هؤلاء المنظرين المرموقين مشغولون دومًا بإلقاء نظريات فضفاضة يكاد يكون من المستحيل تطبيقها على أرض الواقع، تُحشى بها عقول الأجيال الجديدة من دون أيّ أثر ملموس يُعلي من شأن الإنسان.

قد تُحدث سياسة ترامب هزّات في النظام الحالي، ممّا قد يتيح فرصة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة

أنا لست محلّلًا سياسيًّا، ولا أدّعي القدرة على قراءة الطالع، لكن ما يمكنني قوله بثقة هو أنّ استمرار إدارة هاريس والنهج الأوبامي لم يكن ليفضي إلّا إلى استمرار الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، كما سيستمر في تجاهل المذابح في السودان وغيرهما من المناطق. هذا النهج، بامتداده، يعني تعزيز النظام الاقتصادي الاستعماري المعاصر، وحكم الأقليّة في كلّ العالم، وترسيخ عصر جديد من الإقطاعية الرقمية، فضلًا عن إشعال نيران الحروب والنزاعات التي لم يتوقف الديمقراطيون عن تأجيجها.

من جهةٍ أخرى، يمكن اعتبار ترامب، بكلِّ جنونه وعشوائيته، مقامرة مفتوحة. هو شخص غير متوقّع، قد يُحدث هزّات في النظام الحالي، ممّا قد يتيح فرصة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة. نعم، قد تكون إعادة التشكيل هذه باهظة الثمن وتحتاج إلى سنوات تتجاوز فترة حكمه، لكنها قد تحمل معها بذور التغيير الحقيقي والتحرّر من القبضة الاستعمارية الغربية. في المقابل، لا يمكن تجاهل احتمال أن يجنح ترامب نحو سياسة مدمّرة تحرق الأخضر واليابس، ممّا يجعل من مقامرة "نرد الترامبية" خيارًا محفوفًا بالمخاطر.

ومع ذلك، في ما يخص أولئك الذين يعيشون المعاناة اليومية، قد يبدو رمي النرد خيارًا مبرّرًا ومفهومًا، ولو كان الأمل في تغيير الوضع ضئيلًا جدًّا. فعندهم، واقعهم الحالي أسوأ من أيّ احتمال آخر، وربّما، فقط ربّما، يحمل هذا الرهان فرصة للتغيير، فرصة لهزِّ النظام العالمي الحالي المهترئ، ولتُقلَب الطاولة على رؤوس الجميع كما قال المثل المصري "يا نعيش عيشة فل... يا نموت احنا الكل". أمّا "عباقرة" الواقعية السياسية ومحلّلو أكسفورد وهارفارد، فلهم أن يتنطحوا بنظرياتهم كما يشاؤون، بينما الأرض تحترق.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.