الكتابة النسوية والخروج من "ورق الحائط الأصفر"
قرأت قصة "ورق الحائط الأصفر" لشارلوت جيلمان مرّات عديدة، وفى كلّ مرة، أجدني مأخوذاً بقدرتها الفائقة على الوصف: وصف الأشياء، تطوّر المرض، الأشخاص، وصف مشاعرها تجاه البيت وتطوّرها، البيوت التي سكنتها، تطوّر الحائط أو يمكن القول نمو الحائط، المؤسسات الطبية القائمة، وقتئذ، على الطب. تعدّ هذه القصة مثالاً على الكتابة النسوية.
ولدت شارلوت في 3 يوليو/ تموز عام 1860 ونشرت قصة "ورق الحائط الأصفر" في 8 إبريل/ نيسان عام 1892، وماتت في 17 أغسطس/ آب عام 1935.
تستند القصة إلى خبرات جيلمان مع طبيب الأمراض العصبية سيلاس ميتشل، الذي كان دائماً ينصحها بالعودة إلى المنزل والعيش حياة طبيعية كامرأة وزوجة وأم وأن تبتعد عن الكتابة والرسم، لأنّ هذه الأمور من شأنها أن تفسد مزاج وصحة النساء الحسّاسات مثل جيلمان، كتبت: "نصحني الطبيب أن أبتعد عن القلم والفرشاة بقية أيام حياتي. وبالفعل، طاوعت وأطعت التعليمات، ولكن ما وصلت إليه كان الخراب العقلي".
هذا الطبيب يشبه زوجها الطبيب أيضا، وكلاهما يشبهان أخت الزوج التي تلعب نفس الدور الذكوري في المجتمع. زوجها لا يراها لأنها تعدو بالنسبة له خرافة، دعابة، فهو طبيب وزوج وله مكانة علمية مرموقة، فهو يمثل قيم مجتمعه بشكل مثالي. "جون يسخر مني، لكن المرء بالطبع يتوقع ذلك في الزواج، هو واقعيٌ إلى أقصى درجة ولا يملك أدنى صبرٍ مع الإيمان، يرتعب بشدّة من الخرافات ويسخر علنًا من أيّ حديثٍ يتضمن أمورًا غير محسوسة أو مرئية، إنّه طبيب، وهذا على الأرجح أحد الأسباب لكوني لا أتحسن بسرعة (بالطبع لن أقول هذا لأي مخلوقٍ! لكنّ هذا مجرّد حبرٍ على ورقٍ ومصدر راحةٍ كبيرٍ لذهني). حسنًا، كما ترى، هو لا يصدق أنّي مريضة! لكن ماذا بإمكاني أن أفعل إذا كان زوجي (الطبيبُ ذو المكانة العالية) يؤكد للأقارب والأصدقاء أنه لا يوجد أبدًا أي خطبٍ بشأني، وأنّ المسألة ليست سوى اكتئابٍ عصبي مؤقت وميول هستيرية بسيطة، ماذا بإمكان المرء أن يفعل؟ أخي طبيبٌ مرموقٌ بدوره ويقول الكلام نفسه!"
جون يكره الكتابة. جون يكره الأشباح. جون يسخر مني. جون يعطيني مسكنات ومهدئات. جون يريد أن يحميني. جون يحبني...
ورق الحائط الأصفر هو سكن لكلّ النساء. النساء يردن الهرب من الجدار. من الزواج، من المؤسسات، من الأمومة
تنمو الشخصية في صراعها مع الجدار، مع ورق الحائط الأصفر، مع تشكلاته وتدرجاته وتعرجاته، فالجدار هنا ينمو ويتجدّد ويتغيّر مع الشخصية، حتى يصبح هو السكن لكلّ النساء، إذ تقول: "أكره هذا الجدار، وأكره هذه الغرفة، وسأكره نفسي إن عشت فيها طويلا!". وتقول في مكان آخر: "أحب الغرفة كثيراً. لكن حائطها الأصفر يستفزني!".
قبل المرض، وقبل المجيء إلى هنا، في طفولتها، كانت علاقتها مع الأشياء مختلفة: "نعم في طفولتي كنت أجد حياة في الحوائط. وقت الظلام وقبل نومي، كنت أرى الطاولة تبتسم، والكرسي يدعوني صديقتي، حتى إنّي لو وجدت أيّاً من الأشياء يخيفني، فإني كنت سرعان ما أحتمي في ذلك الصديق الذي يحبني".
"في الحقيقة صار الورق الأصفر يسكنني!". هنا بدأت تتشكل علاقة مختلفة مع الحائط، تنام على السرير وتبدأ تتابع خطوط الجدار، النقوش، الانحناءات، ثمّة أعشاب بحرية كانت هنا. تنظر إلى الورق فترى طفلها، امرأة تنظر إليها، تزحف نحوها.
"في الصباح تتغير النقوش. تبدو كمتمرد يعلن العصيان على كلّ قانون ومنطق. عصية على الفهم والإدراك، كأنها تصفعك على وجهك. تصرعك فتسقطك. كأنها كابوس". أما في الليل فـ"تختلف هذه النقوش في الليل، فمع ضوء القمر أو الشفق، أو ربما ضوء شمعة ما، فإنها تبدو كأنها قضبان، ووراءها ظل امرأة تريد أن تفلت". رأت نفسها في الجدار. عرفت من تكون. عرفت السر وأرادت أن تكتشفه. صار الورق سرّ سعادتها. ورق الحائط الأصفر هو سكن لكلّ النساء. النساء يردن الهرب من الجدار. من الزواج، من المؤسسات، من الأمومة...
"اكتشفت شيئا في الأخير؛ أنّ النقش الأمامي على الحائط يتحرّك بالفعل، وأن تلك المرأة على الحائط هي من تهزه بعنف. أحيانا أرى داخل الحائط نساء عدة، وأحيانا أخرى أرى مجرّد امرأة واحدة. أجدها تزحف على الجدار بسرعة تهزّ ذلك النقش كوتر مشدود. تبدو مستكينة حين يقع عليها شعاع من الضوء، بيد أنها تنشط في الظلام، فتمسك بالخيوط كأنها القضبان، تهزها هزّاً، وهي تحاول خلعها كي تخرج، فتقفز منه كي تعبر إلى داخل الغرفة. يبدو أنه لم تنجح محاولات أي من النسوة داخل الجدار من قبل. أظن أنّ تلك الرؤوس التي أراها على الحائط إنما هي رؤوس نساء فشلن في محاولة العبور، فنزع الخيط رقابهن، فتدلت رؤوسهن بعيون بدت بيضاء خالية من مآقيها".
في النهاية، تمزق الورق الأصفر: "مزقت الورق الأصفر يا جون" وتخرج من الحائط، تخرج من الغرفة، فيسقط جون ويفقد وعيه (قوته، علمه، واقعيته..). بجسده يسدّ الطريق، لكن تعبر فوقه، وتزحف إلى الخارج.
"عبرت فوقه، وظللت أزحف".