الكتابة بالمشرط.. عن أروى صالح ولها
هذا الكتاب حقاً سيجرحك من فرط صدقه، وحتى لو كنت مجروحاً، سيزيد هذا الكتاب من ذلك الجرح، وربما سيعمّقه.
هذا النوع من الكتابة جرى تخصيصه للمهزومين، للذين أرهقتهم مرارة التجربة وقست عليهم، وأثقلت الهزيمة ووطأتها على أرواحهم التي كانت ناصعة، ثمّ تحوّلت إلى أرواح ضائعة وهشّة، وربما في الغالب عدمية، فاقدة للمعنى.
من خلال تجربة الكاتبة والروائية المصرية، أروى صالح، الفريدة والمتفردة في العمل النضالي الطلابي في بداية السبعينيات، يضعنا هذا الكتاب (المبتسرون/ دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية)، أمام تحليل كاشف وجريء وملهم لفترة ملتهبة وملتبسة ومليئة بالأحداث السياسية الجسيمة والتحوّلات الكبيرة في تاريخ مصر الحديث.
فمع هزيمة يونيو/ حزيران عام 1967 القاسية والمريرة وتحطّم الحلم الناصري على رؤوس الشعب قاطبةً، بدأ وعي جيل أروى الثقافي والسياسي يتشكّل، حيث بدأت تطرح الأسئلة عن أسباب الهزيمة وطرق الثورة والتغيير، واصفةً تلك المرحلة بالقول: "لكن الهزيمة رشقت الأسئلة بلا رحمة في قلب هذا الحلم"، وبدا الوضع كما لو أنّ الناس، وللمرّة الأولى طيلة الحكم الناصري، يسمعون كلاماً مختلفاً عمّا كانت تردّده أبواق النظام ودعايته الفجة.
اكتسب هذا الجيل فجأة، برغم حداثة وعيه، دوراً قيادياً لم يكن حتى مؤهلاً لخوضه، وأصبح في قلب عملية الحراك الوطني، وتجمعت جموع الشعب حول مطالب الحركة الوطنية بضرورة الحرب، واستعادة الكرامة الوطنية، ومحاسبة المسؤولين عن الهزيمة.
تصف أروى في كتابها جيلها بأنه "الجيل الذي قبض ثمن وطنيته قبل أن يدفع ثمنها". ويبدو هذا التعبير دقيقاً وصائباً عندما تستكشف ذلك من خلال الكتاب. والمميز فيه (الكتاب) أنه عصيٌّ على التصنيف، فهل هو سيرة ذاتية مصغرة أم نوفيلا أم مقالات سياسية اجتماعية واقتصادية مصغرة أم محاولة للبوح عن مرارة التجربة؟
هذا النوع من الكتابة جرى تخصيصه للمهزومين، للذين أرهقتهم مرارة التجربة وقست عليهم
ما يمكنك أن تستخلصه أنه يجمع كلّ هذه الصفات دفعةً واحدة، وهذا يعدّ نادراً على صعيد ما قرأت من كتب، ما يدل على بصيرة ووعي عال ومتفرّد لشخصية ذات خصوصية في طريقة التعبير والكتابة. فهذه القدرة الفذة على البوح بهذا الكم من المشاعر المتناقضة والمتضاربة بلغة سلسة الإيقاع متناغمة المعاني، شيء نادر.
ويتضح ذلك من خلال فصول الكتاب الثلاثة التي اختارت أروى أن تضع عنواناً لفصلها الأول تحت اسم "المثقف متشائماً"، وهذا الفصل يضم تحليلاً في غاية الأهمية والبصيرة لرصده المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمرحلة التي جاءت بعد الهزيمة، ودور المثقف في تلك المرحلة وكيفية استجابته لها. كانت أروى برغم حداثة سنها النضالي، تمتلك وعياً نقدياً وقدرةً على التنظير السياسي، لم تكن متوفرة في أشخاص ومثقفين كبار ممن عايشوها، وربما لا أبالغ، إذا قلت ممن جاءوا بعدها. فها هو الكاتب والمؤرخ الثقافي، وأحد أبناء جيل السبعينيات من اليساريين الأستاذ، شعبان يوسف، يوضح: "أن أروى صالح كانت ضمن اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي في تأسيسه في بداية السبعينيات، وكان لها اسم حركي هو "عايدة"، كانت تكتب المقالات والتحليلات والبيانات وتوقّعها به".
تأخذنا أروى في فصلها الثاني في رحلة مليئة بالأشواك مع علاقة جيلها بجيل الستينيات الجريح من الشيوعيين، وخاصة الذين نكّل بهم وسجنهم الرئيس جمال عبد الناصر لمدة ثماني سنوات في سجونه البغيضة، وعندما أطلق سراحهم، جرى تدجينهم بنجاح. كان جيلها يجد في جيل الستينيات القدوة، فلما انهارت تلك القدوة، دخلوا في متاهة من البحث المحموم عن الخلاص الجماعي.
أما الفصل الأخير الذي جاء بعنوان "المثقف عاشقاً" فهو فصل في غاية الأهمية، حيث كتبته أروى كنوع من التخلّص من سموم روحها التي كوّنتها تلك العلاقات العاطفية المشوّهة التي دخلتها، وخصوصاً مع طبقة المثقفين اليساريين. تلك المرارة التي كُتب بها هذا الفصل وقدرته على فضح عيوب وخواء الكثير من مثقفي تلك العينة من "الطليعة"، إذا جاز لنا أن نطلق عليهم بحكم مصطلح عصرهم، ربما لخصتها أروى عندما قالت "إن الموت هو قدر الحب البرجوازي"، كما تقول واصفةً تلك العلاقة في تحليلها المعمّق والنافذ بأنّ "كلّ الطرق عند البرجوازية تؤدي إلى "الذات" حتى الحب، وكلّ الطرق تؤدي إلى تأكيد الذات على حساب الآخرين، حتى المحبوب. والهدف الأعلى في ظلّ الحياة البرجوازية هو المتعة مطروحاً منها أي عناء، وخاصةً عبء المشاركة، حتى ولو كانت للمحبوب".
هذه النظرة التي حملتها أروى مبكراً لطبيعة العلاقات في عصر الرأسمالية والبرجوازية لا تختلف عن حالنا اليوم. وفي ختام هذا المقال، لا يسعني إلا الترحم على روح أروى صالح العظيمة والملهمة والحرّة والعذبة، وقلبها المرهف الصادق في حسّه بالآخرين، وعقلها الواعي الناضج والناقد الفذ، وأتمنى أن تكون مطمئنة الآن ومتحرّرة من عبء التجربة وثقل الهزيمة.