المجنون الذي وقعتُ أنا بين يديه
قبل عشر سنوات، حينما ذهبتُ برفقة صديقي الفنان الكوميدي، عمر حجو، رحمه الله، لزيارة مشفى الأمراض العقلية قرب قرية "الدويرينة"، إلى الشرق من حلب، بقصد كتابة عمل مسرحي من بطولة الإخوة المجانين، صارت معنا حكاية طريفة.
قبل أن نصل إلى الباب الرئيسي للمستشفى، أوقف الفنان عمر سيارته إلى يمين الطريق، وأطفأ المحرك، وقال لي بجدية تامة:
- هنا، عند الباب، يتواجد موظفو المستشفى، أعني عناصر الاستعلامات، ومكتب القبول، ومكتب الزوار، وفريق النظافة، والعاملين المكلفين بالعناية بالأشجار وأحواض الزهور. وكذلك يتواجد بعض المجانين غير الخطرين، فالمجانين الخطرون لا يسمحون لهم بمغادرة المهاجع. لذلك يجدر بك أن تميز بين النوعين من البشر، أعني بين العقلاء والمجانين، وألا ترتكب أي خطأ كيلا تقع في مشاكل نحن في غنى عنها.
قلت له: ما الداعي لأن أتصرف أنا فأرتكب بعض الأخطاء ونقع في المشاكل؟ تصرفْ أنت في كل شيء، وأنا أمضي لك بالقلم وأبصم لك بالأنامل العشر وأُخْلي مسؤوليتك الشخصية والقانونية والأخلاقية.
أطلق واحدة من ضحكاته الصافية، وقال لي:
- إش هالحكي يو خاي أبو مرداس؟ أنسيت أنك أنت الكاتب، وأن الفنانين، مهما كانوا كثيرين، ومهما كانوا نجوماً، ومهمين، لا يستطيعون أن يرفعوا يداً عن رجل قبل أن يكتمل النص الذي يؤلفه الكاتب على الورق؟ ثم إن المستشفى عبارة عن دائرة حكومية، والشيء الطبيعي أن يُسْأَلَ كل واحد منا على حدة عن هويته وأوراقه وتصريح الدخول الخاص به.
قلت له: معك حق.
ووقتها شغل السيارة واقترب بها من مدخل المستشفى حيث أوقفها لأجل الإجراءات القانونية. وعلى الفور تقدم شخص كان يقف قريباً من دائرة الاستعلامات من نافذة السيارة، وقال مخاطباً إياي: نعم أستاذ؟ إش بتريدوا؟
قلت له باحترام جم: عفواً يا أخ، نريد أن ندخل لزيارة مدير المستشفى.
قال: معكم تصريح؟
قلت: طبعاً. التصريح موجود مع الفنان عمر حجو.
عبارتي الأخيرة، على الرغم من أنها عادية وخالية من أي نوع من الاستفزاز، أفقدت الرجل الذي كان يحدثني أعصابه، وما كان منه إلا أن مد يده إلى خدي وشرع يقرصني بقوة وهو يقول:
- "(شي بيهوي) منك ومنه! ولاك، تطلع فيني منيح وافهم أيش بدي أقلك: ولاك، أنا عندي أكبر تصريح بقشرة بصلة. بتعرف ولاك؟ "وأمعن في شد جلدة وجهي على نحو أوجعني إلى أبعد الحدود." أنا حصلت على حكم قضائي من دون يمين أكبر من ملحفة اللحاف، وعليه (درب تَبَّان) من الإمضاءات والأختام والحواشي والتواقيع، يقضي بإعادة أرضي التي اغتصبها مني واحد متنفذ إلي، بعد صدور الحكم بقيت سبع سنوات وأنا أروح وأجيء إلى المحكمة مثل مكوك الحايك، لكي أنفذ الحكم عليه. لم أترك محامياً ولا كاتباً ولا (مقطِّع دعاوي) ولا كاتب استدعاءات ولا (صَيَّاح محكمة) إلا وذهبت إليه ودفعت له مصاري ليساعدني في تنفيذ الحكم، وما في نتيجة. الرجل المتنفذ دفع ما يعادل نصف ثمن الأرض التي اغتصبها مني رشاوي لزيد وعبيد، وقسماً بالله لو ذبحتهم لرفضوا تنفيذ الحكم عليه!
بصعوبة بالغة استطعت تخليص جلدة وجهي منه، والتفت نحو الفنان عمر حجو أريد أن أستنجد به ليخرجني من هذه المحنة، فوجدته فارطاً من الضحك،.. ذلك أنني كنت أتحاور مع ذلك الرجل في البداية بخشية واحترام زائدين عن اللزوم، في حين تبين أنه مجنون. ولم يكن مجنوناً من النوع الأليف الذي يُترك في الخارج، بدليل أن ثلاثة رجال مسلحين بهراوات مرعبة خرجوا من المبنى مسرعين، قبضوا على الرجل، وأعادوه إلى الداخل.
قال لي الصديق عمر بعد أن شربت المقلب:
- نبهتك، وأنت لم تنتبه، إش بساوي لك يو خاي؟!