المجنون فريد ابن أبو خلّو (11)
بعدما عرف أبو خلو حقيقةَ ما جرى أثناء قطاف الزيتون، وهو أن فريد أعد كميناً لصاحب كرم الزيتون أبو نادر، إذ كسر العارضة الثالثة من "السَلَّاتة"، وربطها بخيط، وبمجرد ما صعد أبو نادر فوقها انكسرت، وأوقعته على الأرض مثل كيس الخردق.
بعد التشاور بين أبو خلو وزوجته وأولاده توصلوا إلى الصيغة التالية: يبقى فريد مسجوناً في غرفته، بعد أن تضع والدته فوق الرف الخشبي الموجود في غرفة السجن كمية من أرغفة الخبز، وصحناً مملوء بالزيت، ومستلزمات أخرى كالزعتر والجبن والمكدوس، وتملأ شقيقته خديجة الخابية بالماء وتضع فوقها الطاسة، ثم يقفلون باب الغرفة، ويذهبون إلى قطاف الزيتون مع أسرة أبو نادر وهم مطمئنو البال.
أمضى فريد النصف الأول من النهار وعقله دائم التفكير في أشياء كثيرة، يأتي في مقدمتها كيفية الخروج من (الغرفة السجن) والقيام بعمل مفيد للأسرة. الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن فريد إنسان حنون، وخدوم، ومعطاء.. هو يعرف أن والده وشقيقيه خليل وأحمد معتادون أن يعودوا إلى البيت قرب أذان المغرب، بعد يوم عمل مضن في الفلاحة، وهم منهكون من التعب، وتكون أم خليل في هذا الوقت قد جهزت لهم طعاماً ساخناً، فيأكلون منه بشراهة تماشياً مع المبدأ القائل: أكل الرجال على قدر أفعالها.. وبما أن والدته وأخواته البنات يعملن مع والده وشقيقيه في قطاف الزيتون، فهذا يعني أن المسؤولية في هذا اليوم تقع عليه، يعني، على قولة المثل: ما في بالميدان غير حديدان. وبينما فريد مستغرق في التفكير بأحسن طريقة لخدمة أهله، إذ لمح صديقه القديم سلمون (الفتى الذي تحدثنا عن بعض فصوله في سهرة الإمتاع والمؤانسة) قادماً من آخر الزقاق. ضحك فريد وقال لسلمون: شلونك ولاك سلمون الكلب؟ لساتك عم تشتغل في المبقرة؟
لم يكن مرور سلمون في هذا الزقاق مصادفة. كان قد سمع بحكاية سلاتة الزيتون التي حَوَّلَها فريد إلى فخ أوقع فيه "أبو نادر" وتسبب له بكسر في عظم ساقه.
قال سلمون: أهلين صبحي شعبان. لسه عم تشتغل في التصوير؟ ولا غيرت اختصاصك وصرت تنجر عوارض للسَلَّاتات؟
توقفت أنفاس الأصدقاء في سهرة الإمتاع والمؤانسة وهم يتخيلون المشهد الذي يرسمه فريد مع صديقه سلمون
طلب فريد من سلوم أن يقترب منه ليهمس له بسر. تعلق سلمون بحديد الشباك، ورفع نفسه حتى تمكن من تثبيت رؤوس أصابع قدميه على حافته، وصار هو وفريد وجهاً لوجه.
فريد: أنت شلون كنت تدخل ع المدرسة؟ لا تجاوب. أنا بقلك شلون، كنت تتعلق بعمود الكهربا اللي من الطرف الشمالي، ولما تصير ع السطح كنت تمشي لحتى توصل على سور الحديقة (الجَمَلُون)، وتركض لآخر الجملون، وتدلي جسمك لتحت وتطف، ووقت الصرفة نفس الشي. يعني هلق، إذا بطلب منك هالخدمة، إنك تتعربش وتنزل ع دارنا وتفتح لي باب الأوضة ما راح تكون صعبة عليك.
سلمون: وإذا حدا مر وشافني عم أتعربش ع العمود وإطلع ع داركم بيقول أنا حرامي، وبيعمل حاله شريف وبيجيب لي الشرطة وبصير في بيت خالتي.
فريد: لا تخاف، أنا هون، إذا حدا شافك أنا بفهمه أنك جاية تزورني وتشرب عندي كاسة شاي. يا الله اطلاع وخلصني، ولما بتوصل ع باب غرفتي بتلاقي المفتاح في القفل، بتفتح لي وأنا بطلع، وبطبخ لأهلي منشان لما يجوا يلاقوا الأكل جاهز.
توقفت أنفاس الأصدقاء في سهرة الإمتاع والمؤانسة وهم يتخيلون المشهد الذي يرسمه فريد مع صديقه سلمون.
وفجأة ضحك أبو الجود وقال: إذا فريد صار طباخ توفقنا. وعلى قولة المتل (إذا طباخنا جعيص شبعنا مرقة).
أبو جهاد: وأشو بقى نوع الطبخة؟
أبو المراديس: نسيت أقول لك أن فريد إنسان واقعي، أكيد ما راح يفكر بطبخة بدها لحم وخضار وتوابل والذي منه. الطبخة اللي كانت في باله حقيقة هي "البرغل بعدس". طبعاً هوي تشكر صديقه سلمون، وطلب منه يغادر حالياً، ويا ريت لو يشرف لهون المسا ويتعشى مع العيلة، لأن بوقتها راح تكون الطبخة جاهزة، وأكيد بتفتح النفس والقابلية. سلمون اتجه نحو باب الدار، لحتى يطلع، فضحك فريد وقال له: كني شغلك مع البقر خلاك تصير متلهم؟ شلون بدك تطلع من هون والباب مقفول والمفتاح بجيب أبوي؟
المهم، طلع سلمون عن طريق الحيط، ونط ونزل ع الزقاق، بينما راح فريد لعند التنور، شال كومة حطب وجابها لأرض الديار، وكومها بجانب التفية (الأثفية)، وأحضر زجاجة الكاز، وأفرغها فوق الحطب، وأشعل عود كبريت وألقاه فوق الحطب، وبلشت النار تشتعل و(توجّ)، تركها فريد وراح مرة تانية لعند التنور، سحب قرمتين خشب كبار، وحطهن داخل النار، وركض ع المطبخ، جاب أكبر طنجرة في الدار، صب فيها قادوسين مي متحهن من الجب، وحط الطنجرة ع النار، وبعدها صار يجيب مكونات الطبخة ويفضيها ورا بعضها في قلب الطنجرة.
أم زاهر: المكونات؟ وحضرته فريد بيعرف أشو هيي المكونات؟
أبو المراديس: هوي متأكد أنه البرغل والعدس ضروريات، لأن اسم الطبخة برغل بعدس، بعدما حط برغل وعدس صار يتذكر، طلع معه أن بدها زيت، فجاب تنكة الزيت اللي كان فيها ربعها تقريباً، وفضاها فوق الطنجرة..
أم الجود: أنت قلت حط برغل وعدس، شقد الكمية اللي حطها؟
أبو المراديس: ما في كمية محددة، على تيسير الله، بعدين فريد تذكر البصل، جاب شي عشر بصلات، وصار يقطع كل بصلة نصين ويطبها في الطنجرة، وصار يمدد جسمه ع الأرض وينفخ في النار لحتى تتوهج، هون بلشت المادة السائلة الموجودة في الطنجرة تبقبق، والبصلات صاروا ينطوا لفوق وينزلوا لتحت، وبعد شوي صارت محتويات الطنجرة تطفح وتفور وتنزل فوق النار، وهادا الشي خلى الدخن يتصاعد بشكل كبير.
حنان: أنا خايفة تصير كارثة بعد هالشي.
أبو المراديس: نفس الشعور انتاب الجيران اللي شافوا الدخان عم يطلع من دار أبو خلو، وكلهم بيعرفوا إنه أبو خلو وعيلته في حواش الزيتون. منشان هيك قرروا يتدخلوا، ويمنعوا الحريق من التهام محتويات الدار.
(للقصة تتمة)..