المجنون فريد ابن أبو خلّو (13)
كتب الراوي أبو المراديس:
استغل الفتى المجنون المؤذي "فريد" غيابَ أهله عن الدار، ولجأ إلى حيلة للخروج من غرفته التي سُجن فيها إلى أرض الدار، وراح يطبخ "برغل بعدس"، بقصد أن يأكل هو، ويجهز لأهله طعاماً ساخناً وقت عودتهم من الشغل في قطاف الزيتون..
وكانت طبخة -كما يقول الناس الساخرون- "أنتيكا"، فقد وضع في الطنجرة الكبيرة كل ما عثر عليه في غرفة المؤونة من رز وعدس وبرغل وشعيرية وسمنة وسميد وزيت وسكر وبصل، وأوقد تحتها ناراً تكفي لسلق ثور، وفي النتيجة تسببت فعلتُه بحريق، وكسرَ الجيران الباب، ودخلوا، وأطفأوه.
وانتهت القصة ببعض الخسائر المادية، وامتص أفراد الأسرة هذه الصدمة، معتبرين ما حصل نوعاً من القضاء والقدر، وعَدَّل أبو خلو قراره بخصوص فريد، بأن تذهب الأسرة في اليوم التالي إلى قطاف الزيتون، كلها عدا فريد وأم خلو. وقبل أن يغادروا الدار جلس أبو خلو مع زوجته وقال لها: اسمعي يا أم خلو، أنا راح أقفل باب غرفة فريد، وأحط المفتاح تحت المخدة اللي مننام عليها أنا وإنتي، شرط ما بتفتحي له الباب إلا إذا صار شي خطير، ما بدي تعملي حالك أم حنونة وتخليه يطلع من الغرفة، لأن هادا بس يطلع بيبلش يئذي، وإذا هوي قال لك (افتحيلي) جاوبيه إنه المفتاح مع أبوك، وأبوك هلق في الشغل.. وإذا قال لك إنه جوعان وبده يتزهرم أكل، أو يشرب مي، بتعطيه من بين قضبان الحديد.. ما بدي ونحن عم نشتغل في الزيتون يجي حدا ويقلي: فريد عمل كذا وعمل كيت.
أم خليل وعدت زوجها بالالتزام التام بتوجيهاته، وقد نفذتها بالفعل، وفريد بدوره لم يسبب لها أي إحراج، إذ تعامل مع السجن في هذا اليوم على أنه حقيقة واقعة، وأمضى وقت الصباح كله وهو جالس بالقرب من النافذة المطلة على الزقاق، يمازح بعض العابرين الذين يعرفهم، وأما هي، أم خلو، فأرادت أن تستهلك الوقت في عمل مفيد، أحضرت ثياب زوجها وأولادها المتسخ، وملأت وعاء بلاستيكياً كبيراً مما يعرف باسم "طشت الغسيل" بالماء الساخن، ورشت عليه مسحوقاً منظفاً (هودرو)، وجلست على كرسي واطئ في أرض الديار، وراحت تغسل.
علق أبو جهاد على هذا الجزء من الحكاية بقوله: عم تقول إنه فريد بيمزح مع الناس المعدايين قدام الشباك؟ ليش هادا فريد بيعرف يمزح؟
دهش فريد لدى سماعه مصطلح "مساعد أول" لأول مرة. ومن خلال الأخذ والرد بينه وبين سلمون، فهم أن المساعد أول عنصر في المخابرات، اسمه همام، يسكن في آخر الحارة
أبو المراديس: طبعاً. فريد طول النهار بيمزح، لكن أوقات بتكون المزحة تبعه حلوة، وأوقات بتكون تقيلة حبتين، مثلاً لما كان يطلب من زميله في المدرسة يتمشط ويتبسم منشان يلتقط له صورة، ويخبطه بالحقيبة التنكية على راسه، هادا مزح طبعاً، ولما قعد مقابيل الحاج برهو اخرطي متل السعدان وصار يقول له (وقواص في إدنك) كان عم يمزح، ولما قال لأبو حسني ضراب الطوب (بدي أصفقك كفين بس هلق ماني فاضي)، كمان عم يمزح، ويمكن هاي المرة الوحيدة اللي كانت مزحته فيها ظريفة. وعلى فكرة، فريد في كل فترة بيستلم جملة، وبيرددها بشكل دائم، وبتصير هالجملة، متلما بيقولوا المخرجين تبع التلفزيون، (راكور).. بهداكا اليوم كان متعلم عبارة خاصة بالمزح هيي (طزّ بيلبق لك).. وهادا الشي بياخدنا باتجاه الحادثة اللي وقعت أثناء هاي المزحة.
أبو محمد: حلو كتير. أشو صار؟
أبو المراديس: كان فريد عم يمزح مع ولد من الحارة، وعم يقول له (طز بيلبق لك)، وفجأة لمح رفيقُه سلمون جاية من بعيد.
فريد: طز بيلبق لك يا سلمون الكلب، تطمن أنا ما جبت سيرتك في المخفر بعدما صارت الحريقة.
سلمون رد عليه بالمثل وقال له: طز بيلبق لك يا فريد الجحش، طز فيك وبالمخفر وبالحريقة. وإذا بتكون إنته فريد أبو خلو على سن الرمح هلق جاييك المساعد أول "همام". إبقى فرجينا شطارتك.
دهش فريد لدى سماعه مصطلح "مساعد أول" لأول مرة. ومن خلال الأخذ والرد بينه وبين سلمون، فهم أن المساعد أول عنصر في المخابرات، اسمه همام، يسكن في آخر الحارة، وخلال ذهابه إلى العمل، وعودته من العمل، يخاف منه الناس، ويغذون الخطا عندما يلمحونه لئلا يلتقوا به وجهاً لوجه، فهو رجل متعجرف، يحب الأذى وكتابة التقارير، وإذا نظر إليه أحد ما نظرة لم تعجبه، يسارع إلى وضع يده على مسدسه، ويوبخ الرجل حتى ولو كان من جيل والده، وإذا كان الناظر إليه ولداً مثل فريد يلكزه في حنكه ويقول له: يلا روح لعند أمك يا كرّ.
فريد فكر قليلاً، ثم طلب من سلمون أن يقرب أذنه من حديد النافذة، وعندما اقترب همس له بكلام، هز سلمون رأسه وغادر مسرعاً. بعد قليل وصل المساعد أول همام، وكان سلمون يمشي وراءه ويعطي إشارة لفريد يؤكد له فيها أن هذا هو الرجل المقصود. مد فريد أصابعه بين فتحات الشبك المعدني وقال لهمام: أهلين مخابرات. شلونك يو خاي؟ طز بيلبق لك!
لم يصدق عنصر المخابرات ما سمع بأذنيه، وضع يده على المسدس واقترب من فريد.
همام: هادا الحكي إلي؟
فريد: أي نعم إلك. مو إنته مساعد أول في المخابرات؟ طز بيلبق لك. طز.
جن جنون المساعد أول همام، وشرع يقرع الباب بيديه وقدميه بقوة. أم خلو ذعرت، فهي لا تعرف ما حصل، صاحت: مين؟ قال لها المساعد أول: افتحي افتحي أحسن ما إكسر الباب.
ارتدت أم خلو الإيشارب، وفتحت الباب، فوجدت هذا الرجل الغاضب، وهو يقول: وينه؟ وينه هادا الكر؟ افتحي لأشوف.
استنتجت أم خلو أن هذا الهيجان ناجم عن فعل لا بد أن فريد قام به.
أم خلو: يا إبني هادا إبني ولد مصروع، نحن قافلين عليه الباب حتى ما يطلع
رخ المساعد الأول همام: افتحي وخلي يطلع لحتى فرجيه قيمته لهالواطي. لكان بيقلي إلي (طز بيلبق لك)؟
(للقصة تتمة)