المجنون فريد ابن أبو خلّو (15)
لو كان بالإمكان التعامل مع العواطف الإنسانية بالطريقة الحسابية لقلنا إن السيدة أم خليل قسمت الحب الموجود في روحها إلى قسمين (فيفتي/ فيفتي)، الأول وزعته على أولادها الآخرين، خليل وأحمد والبنات، والثاني خصصته كله لـ "فريد" الأهبل المجنون الشرس الذي لا تطاق صحبتُه، ولا تسر رؤيته، ولا يؤمَنُ المرورُ بجواره.. وقد ازداد إعجابها بفريد وقلقها عليه بعد المعركة التي انتصر فيها على المساعد المخابراتي هُمام، إذ شاهدته وهو يمرغ وجهه وجسده بالطين، ويشلحه مسدسه.. وهي، بقدر ما كانت خائفة، انشرح قلبها للعزيمة الجبارة التي يمتلكها فريد. وقالت لنفسها: ما شاء الله كان.
حينما ينادي فريد والدته ليطلب منها خدمة، كانت ترد عليه بعبارات مختلفة من قبيل:
- نعم يا قلبي؟
- إئمور يا روحي..
- الله لا يحرمني من فريد وطلباته.
في سهرة الإمتاع والمؤانسة كان الأصدقاء متشوقين لمعرفة مصير بطل هذه السيرة، فريد.
أبو جهاد: يعني خلص؟ قصة فريد بعد معركته مع عنصر الأمن انتهت؟
أبو المراديس: باقي فيها شوية وبتخلص. يا سيدي الكريم، العم أبو خلو، قبلما ينتهي من حواش الزيتون بيومين، خطرت له فكرة جهنمية. قال لأم خلو: بتعرفي أشو بدي ساوي؟ بكرة بإذن الله راح ننتهي من حواش الزيتون، وبعد بكرة بدنا نطلع أنا وخليل وأحمد ع الفلاحة.
وبدي آخد فريد كمان ع الفلاحة.. هناك بيبقى تحت نظري ونظر خليل وأحمد.. ومتلما بتعرفي، البراري في وقت الفلاحة بتكون قفرا، يعني إذا فريد أحب يتبشتن (يعمل مشاكل) مع حدا من جنس البشر ما راح يلاقي.
أم خلو: طيب متلما بدك.
أبو المراديس: المهم، تاني يوم، طلع أبو خليل وخليل وأحمد والبنات على حواش الزيتون، وبقي فريد مع أمه في الدار، وطبعاً هوي في غرفته (السجن). أم خلو كانت عم تشتغل في أرض الديار، وسمعت صوت فريد عم ينادي من غرفته: يام، أنا جوعان بدي آكل.
غاب شي خمس دقايق ورجع، وقال لأمه: لا والله يام، دارنا مو مسكونة بالجان، لأني صحت عليهم ما حدا رد علي. بقلك أشو لازم نعمل؟
تركت كل شي من يدهاـ وركضت ع الغرفة السجن، وقالت له: ولي على قامتي إن شاء الله. الجوع للقطة. أنا موجودة هون وأنت تجوع؟ يخسا الجوع! الله تعالى، بجاه سيد المرسلين لا يجعل أحداً يقبرني ويلحدني ويكفنني بيديه غيرك يا فريد!
كان فريد، في تلك الأثناء، جالساً على أرض الغرفة السجن، ممدداً ساقيه اللتين تنتهيان بقدمين مثل شختورتين إلى الأمام، مسنداً يديه اللتين تشبهان مخباطَي الصَبَّاغ على الأرض، مرخياً براطيمه الأكبر من براطيم الجمل، وقال لأمه: يام أنا مشتهي على أكلة كبة مقلية.
أم خليل: تكرم عينك يا قلبي، ويا نظري.. خليك أنت هون، أنا هلق بحط السلم وبطلع ع السقيفة، بنزّل البرغل والسمنة وقلايد الفليفلة الحمرا والقلوبات، وبمرس البرغل في القصعة، وبطيّبها، وبقلي لك كبة، وبخليك تاكل لحتى يقب باطك (لكي تشبع كثيراً).
هون بلش فريد يتملعن، قال لأمه: يام أنا كنت عم بمزح. بلا الكبة الله يخليكي. مناكل أي شي.
أم خليل: ليش تقبرني؟
فريد: لأنك مرا كبيرة بالعمر، وظهرك بيوجعك، السلم تقيل كتير شلون بدك تشيليه؟ إذا بدك، افتحي لي، أنا بشيل السلم وبسنده على حرف السقيفة، وببقى سانده حتى ما يزحط وتوقعي ع الأرض، إذا وقعتي بتنكسر رجلك، وأنا بوقتها ما فيني آخدك لعند المجبر "أبو أحمد الناطور"، لأني محبوس.
أبو المراديس: فكرت أم خلو بكلام فريد، تبين لها أنه منطقي، ففتحت له الباب، طلع، شال السلم بسهولة ويسر، وكأنه شايل حمالة مفاتيح. أم خلو طلعت ع السلم حتى وصلت ع السقيفة، وفتحت الكياس اللي فيها البرغل (الصريصرة) والفليفلة المقددة، وأخدت الكمية اللازم، ولما قررت تنزل ما لقت السلم! فريد طبعاً هوي اللي شاله وخباه. صاحت عليه: ولك وينك يا فريد؟ ليش شلت السلم؟
فريد: أنا شلت السلم؟ سامع الصوت، والله ما دقرته.
أم خلو: ولي ولي ولي. لكان مين شاله؟
فريد: أكيد دارنا مسكونة بالجان يام. طولي بالك لأشوف.
وغاب شي خمس دقايق ورجع، وقال لأمه: لا والله يام، دارنا مو مسكونة بالجان، لأني صحت عليهم ما حدا رد علي. بقلك أشو لازم نعمل؟
أم خلو: أشو؟
فريد: أنا بشوف إنك تبقي قاعدة فوق على السقيفة، وأنا ببقى قاعد هون، لحتى يرجع أبوي وأخواتي من حواش الزيتون، وهني بيجيبوا سلم وبينزلوكي. يا إما بروح هلق بستعير السلم تبع بيت خالي أبو محمود.
الراوي: امرأة في الستين من عمرها، وحيدة، مسجونة على السقيفة، وولدها المجنون الذي كان سجيناً أصبح طليقاً، ويأخذ رأيها في أن يذهب إلى بيت أخيها ويستعير سلماً لينقذها به، ماذا تفعل؟ ولكن أخاها أبو محمود لم يدخل دارهم منذ عشر سنوات، بعدما اختصم مع زوجها، ووصلت بينهما للضرب. قالت: ما بعرف، اعمل اللي بدك ياه، ونزلني من ع السقيفة قبلما يجي أبوك ويزعل مني. وإذا زعل ترى الحق معه، لأنه أكد علي مية مرة أني ما إفتح لك الباب، بس أنا قلبي حن عليك، شفتك مشتهي ع الكبب، قلت لحالي ما راح أخليك بحسرتها.
أم خلو سمعت صوت خطوات فريد في أرض الديار، وبما أنه يدخل الدار ويغادرها بطريقة التسلق على الجدار فقد أرهفت السمع حتى سمعت صوت ارتطامه بالأرض، وبعد أكثر من نصف ساعة سمعت صوت ارتطامه بأرض الديار، ثم وقف أمام السقيفة وقال لها: يام، هدول قرايبينا وجيراننا ما بيحبّوا الخير. طلبت من خالي يعيرنا السلم تبعه، صار يبهدلني، وقلعني، وجارنا أبو إبراهيم حلف يمين إن السلم تبعه مكسور، وجارتنا "وهوب" كمان صرخت علي وقلعتني. بعدين قلت لحالي أحسن شي أخليكي تنزل ع السلم تبعنا.
أم خلو: ليش وين السلم تبعنا؟
فريد: موجود. يام أنا قلت لك أخدوه الجان، بس كنت عم بمزح. الجان ما بيسترجوا يجوا ع دارنا وأنا موجود.
الراوي: بعدما نزلت أم خلو عن السقيفة، مشي فريد قدامها على غرفته، دخل، وقال لها (اقفلي علي قبل ما يجي أبوي ويشوفني بره ويعمل لك صرعة. يام إذا أنا متت إنتي تذكري شلون طالعتك ع السقيفة وشلت السلم. مزحتي كويسة مو؟!!).