المجنون فريد ابن أبو خلّو (7)
لا يعرف أحدٌ من مشيعي الحاج برهو اخرطي ما الذي جرى على وجه التحديد حتى تكهرب الجو خلال تشييع الجنازة.
أثناء حمل المقصورة (الآلة الحدباء التي يُحمل عليها الأموات)، والسير بها باتجاه جَبَّانة الحلفا، أحدُ أبناء المتوفى الحاج برهو، لمحَ العم "أبو خلو" وولديه خليل وأحمد ماشين بين المشيعين، فاحمرت عينه منهم، وصار يبربر بكلمات حانقة، وكاد أن يفقد صوابه ويتجه نحوهم ليطردهم من المكان، فانتبه لذلك "الحاج خيرو الدكاك" وسارع إلى منع الصدام. تقدم الحاج خيرو من أبو خلو، وهمس في أذنه بضع كلمات جعلته يندهش، وبعد قليل انسحب مع ولديه خليل وأحمد من موكب الجنازة، وعادوا إلى حارتهم مسرعين.
لدى وصول أبو خليل وولديه إلى الدار، كان لا بد من الإفراج -مؤقتاً- عن الفتى المجنون فريد، وإخضاعه لتحقيق مطول حول ما سمعوه من الحاج خير عن أسباب وفاة الحاج برهو اخرطي.
أبو خلو: اسماع ولاك حيوان، بدي إسألك سؤال وبتجاوبني عليه من دون لف ودوران وأكل هوا. عم تفهم؟
فريد: له يا ياب له.. ليش في بالعادة أن ألف وأدور وآكل هوا قدامك؟ تفضل اسآل.
أبو خلو: البارحة، لما كنا في زيارة مقام الشيخ عبد الحنان، أشو صار بينك وبين المرحوم الحاج برهو اخرطي؟
فريد: والله يا ياب أنا ما كنت بعرف اسمُه، لكن لما صاحوا إسمه في المادنة عرفت إنه هادا هوي اللي كان معنا في زيارة الشيخ عبد الحنان. كانت الدنيا ليل، وأنا كنت جوعان كتير، وكل الناس كانوا نايمين إلا هادا الزلمة الختيار الحاج برهو اخرطي كان فايق، ومو بس فايق، كان عم يحاول يفيق النايمين.. بتعرف ليش ياب؟
أبو خلو: ليش؟
أبو عبدو: أنا مو بس بحكي ع اللبنية. كمان بحكي ع الفريكة، وعليك شخصياً. لأنك بالفعل إنسان ما بتستحي ولا بتنعار
فريد: بعيد عنك هوي واحد قليل وجدان، يعني عواض ما يبقى ساكت وينام متل هالناس صار يعن ويصيح (آخ يا يام آخ). هيك ما بيصير يا ياب، أنا لما كنت في المدرسة كان الأستاذ عبد الله يعلمنا إنه الواحد ما لازم يدايق غيره ويزعجهم.
أبو خلو: اللهم صلي على أشرف الخلق. احكي لي لأشوف، أنت أشو عملت للزلمة حتى صار فيه هيك؟
فريد: والله ما ضايقتُه ياب، هوي كان عم يقول آخ، أنا قلت له (وسَلَّاخ).. ولما قال (آخ يا يام)، أنا قلت له (وضريب يشلفك لقدام).. وأنا من وقت ما سكت ما عدت حكيت معه. الله وكيلك ياب، هاد اللي صار. على كل حال الله يرحمه. بس مين هوي الزلمة الواطي يا حزرك؟
أبو خلو: مين؟
فريد: أبو أحمد الفنكري. كان اليوم الصبح مارق من جنب الشباك، وقف وصار يسألني أسئلة. ولما حكيت له عن اللي صار في الزيارة قال لي (معناتها يا فريد إنت اللي مَوَّتُّه للحاج برهو اخرطي).. وقال لي إنه هوي ما راح يسكت عن هالشغلة، وإنه بده يحكي القصة لولاد المرحوم. أنا قلت له: أنا بعرفك فاسودي، بس هاي الشغلة ما بتغبر على صرمايتي.
قال لي: يعني بتعترف إنك موتت الزلمة؟
قلت له: يا سيدي أنا مَوَّتُّه، وأعلى ما بخيلك اركبه.
كان الحوار بين أبو خلو وولده فريد عقيماً كالعادة. كظم أبو خلو غيظه، وطلب من أحمد إعادة فريد إلى الغرفة السجن، وإغلاق النافذة المطلة على الشارع لئلا يقف فريد بجوارها ويبدأ بتطوير المشكلة المحتمل وقوعها مع عائلة (اخرطي) المعروفة بشراسة أبنائها وغبائهم.
قال خليل لوالده: ياب أنا خايف ما يجحشوا بيت اخرطي وياخدوا الموضوع جد ويهجموا علينا. هن كتيرين وأنا وإنت وأحمد ما فينا نعمل شي معهم. أشو رأيك ياب، نخبر ولاد عمنا، منشان إذا جَحَّشُوا هني كمان نحن نجحش؟
أبو خلو: طول بالك خليل. نحن ما بدنا نكبّر الشغلة. روح هلق على بيت الحاج خيرو الدكاك، حط له خبر إنه إذا رجع من الجبانة يمر علي، بدي أشوفه.
ساد الصمت في سهرة الإمتاع والمؤانسة، والأصدقاء كان الساهرون يتابعون الأحداث وهم في قمة الدهشة والاستغراب. قال أبو ماهر: معقولة تصير مشاجرة طويلة عريضة من تحت راس ولد مجنون؟
ضحك كمال ضحكة طويلة، وقال: من تحت راس مجنون؟ يا سيدي في مشاجرات وقع فيها جرحى ومكسرين ومرضوضين صارت لأسباب أقل من هاي بكتير.
أم زاهر: عم تحكي جد يا أستاذ كمال؟ طيب على أيش وقعت هالمشاجرات؟
كمال: من زمان، كان في تنين أصحاب، أو متلما بتقولي أصدقاء عُمْر. أبو عبدو الغربي، وأبو سمير الفيلوني. أبو عبدو كان طالع من صلاة المغرب في جامع الحمصي، شاف صديقه أبو سمير، فبادر ودعاه ع العشا. ولحتى يخليه يتحمس ويقبل الدعوة صار يقول له: أختك أم عبدو طابختلنا رز وبامية بيتاكلوا الأصابيع وراها. يا خيو أم عبدو فنانة بطبخ البامية، بتقليها مع توم وكزبرة، وبتحط لها دبس بندورة من اللي بتعملها في الصيف على إيدها، والرز بتحط معه شعيرية، وبترش على وجهه بهار، وفوق الرز بتحط فخدة دجاج وشرحة لحم خروف عواس.. وتعا دوق يا أبو سمير وادعي لي.
ضحك أبو سمير باستخفاف وقال: من كل عقلك يا أبو عبدو بتحب الرز؟ أي أشو حضرتك صيني؟ أنا ما بطيق الرز ولا بطيق البامية، خيو، أنا اليوم عازمك، اليوم أختك أم سمير عاملتلنا طنجرة فريكة بيلعب عليها الخيال، وجنبها لبنية بلبن الغنم الأصلي، ولا تسألني عن القلوبات المقلية بالسمن العربي، والبصل الأخضر اللي بياخد العقل.
كان وجه أبو عبدو بهالفترة عم يتلون أشكال وألوان، وقال لأبو سمير: اللي حكيته عن الرز والبامية بدي أعدّي لك ياه، لأني أنا إبن حلال وما بنسى الخبز والملح، ولأنك صاحبي ما راح إحكي شي عن اللبنية.
أبو سمير: أنت بدك تحكي عن اللبنية؟ ليش بيطلع لك تحكي عليها؟
أبو عبدو: أنا مو بس بحكي ع اللبنية. كمان بحكي ع الفريكة، وعليك شخصياً. لأنك بالفعل إنسان ما بتستحي ولا بتنعار.
أبو سمير: إنته ولاك؟
ونشبت المعركة.
(للقصة تتمة)