المربي الفاضل طق عقله!
بالعودة إلى سهرة "الإمتاع والمؤانسة" التي تنعقد يومياً في مدينة إسطنبول.. أقول إن الأصدقاء الموجودين في السهرة كانت لديهم رغبةٌ في أن يستمر ضيفُنا الجديد الأستاذ مجيد الدردي بالتحدث عن أحوال التعليم في إدلب وأريافها، فهو يعرف من خباياها الكثير باعتباره أمضى في هذه المهنة الشاقة أربعين سنة.. ولكن الأستاذ مجيد، بعدما حكى حكايتين عن التعليم، أو ثلاثاً، فتح سيرة "المضافات" التي كان لها، في تلك الأيام، حضور اجتماعي، وتبينَ أنه يحب هذه السيرة.
قال مجيد: متلما كانْ الشعرْ في القديمْ ديوانْ العربْ، فينا نقولْ إنُّه المضافاتْ هيي "ديوانْ البَلَدْ".. وإنتو تخيلوا بلدْ ما فيها صحيفة، ولا فيها أحزاب سياسية، ولا فيها مكتبات للمطالعة، وين الناس بدهم يروحوا؟
قال كمال: قصدك وين بدهم يروحوا في السهرة؟ لأنه في النهار بيكونوا في الشغل.
قال مجيد: حتى اللي عندهم شغل، غالباً الشغلْ تبعهمْ موسمي. بيفْلَحُوا الأرضْ، وبيرشوا البذار، وبيقعدوا خمسة أو ستة أشهر لحتى يصير وقت الحصادْ اللي بيستغرق شهر، وبعد الحصاد بيقعدوا كم شهر لوقت ما يجي وقت الفلاحة من جديدْ.
قال أبو إبراهيم، وهو من أصغر الموجودين سناً: يعني بهديكه الأيام ما كان في راديو ولا تلفزيون؟
قال مجيد: التلفزيون دخل سورية في سنة 1960، وما صار شائع لبعد حوالي عشر سنين. لكنْ في الخمسينات كانْ في عدد قليل من أجهزة الراديو موجودة في بيوت الآغوات، وفي مضافاتهم. ولما دخل الراديو لأولْ مرة ع المجتمع في ناس أصابْهُمْ العجبْ، وفي ناسْ أوشكوا على الجنون من فَرْطْ الاستغرابْ.
قال أبو محمد، وهو مجايل للأستاذ مجيد: أنا متعودْ لما بكونْ في هالمجلسْ إني بسمعْ أحاديثكم وببقى ساكتْ، وخاصة لما بتحكوا في السياسة، لأني، والحمد لله، ما بفهمْ بالسياسة نهائياً.. أما بالنسبة للراديو فأنا بأَكّدْ على أنه كلام الأستاذ مجيدْ صحيحْ. أنا كنت عايش في ضيعتنا، وكنت روح مع والدي على الفلاحة ونرجع ع الضيعة قبل المغرب، ونتعشى ونسهر شوي وننام، ونروح تاني يوم ع الفلاحة.. هاي هيي حياتنا. وفي يوم من الأيام بعدما خلصنا فلاحة الأرض وأخدنا استراحة، كنا عم نتمشى أنا ورفاقي على بيدر الضيعة، وأجا واحد من ضيعتنا كان عم يتعلم في مدرسة المتنبي بإدلب، وقال: يا جماعة في شي اسمه راديو.. ومتل زَخّ المطر نزلتْ عليه الأسئلة. راديو؟ أيش يعني راديو؟ يعني الراديو زلمة؟ الراديو أكلة؟ الراديو سلاح؟ الراديو كلابية؟ قال الشاب: طولوا بالكم. الراديو جهاز بيشتغل ع الكهربا وبيحكي. رجعوا الشباب صاروا يسألوه: بيحكي؟ يعني الراديو رَجُل؟ طويل؟ قصير؟ أشقر؟ أسمر؟ أيش أوصافه؟ قال الشاب: لا، مو هيك، هوي جهاز في جواتُه خيطان ملونات وزْرَارْ وبَزَابيزْ ولمبات بتشتعل ولونها أصفر وأحمر وأخضر، وبيحكي من دون ما يكون في جواتُه حدا.
قال مجيد: الحالة اللي حكى عنها أبو محمد كانت تصير في كل مكان، يتصير حتى في مدينة إدلب اللي المفروض تكون متطورة أكتر من الضيعة. ومرة من المرات أنا شفت راديو جديد، وكان معه كاتالوغ مكتوب بالإنكليزي، فقريتْ بعض المعلومات الموجودة في الكاتالوغ، وعرفت المبدأ اللي بيشتغل عليه، ومع هيك كنا مرة قاعدين في مضافة ابن عمي نذير آغا، وحكيت أنا عن الراديو، ولما كنت عم إحكي شفت تنين من الموجودين عم يحكوا مع بعضهم بالإشارات، وكان واحد منهم عم يقول للتاني إنه الأستاذ مجيد طق عقله!
قلت: حكاية الأستاذ مجيد ذكرتني بحكاية روى لي إياها الأستاذ عبد الله الدرويش. بتقول الحكاية، نقلاً عن أحد كبار السن، إنه في جماعة من أهل قرية تابعة لإدلب كانوا يشتغلوا في مزرعة أحد الآغوات في منطقة سهل الغاب التابع لمحافظة حماه، وفي يوم العيد قرروا الفلاحين يزوروا الآغا في مضافته، ويعايدوه، وبنفس الوقت يستمعوا للراديو عنده. الأغا استقبلهم استقبالْ جيدْ، وقدم لهم القهوة والشاي وبعض الحلويات. وخلاهم يسمعوا ع الراديو. واحد من الضيوف سأل الآغا: كيف بيشتغل الراديو يا آغا؟
رد عليه: يا إبني الراديو بيشتغل عَ الأرقام، بتحط رقم (8) بتطلع لك لندن، بتحط (6) بتطلع برلين. بتحط رقم (!1) بتطلع لك إذاعة صوت العرب، وبين لندن وبرلين بتطلع الشام..
عندما لاحظ الآغا أن الدهشة ترتسم على وجوه ضيوفه، أحب أن يوجه إليهم ضربة قاضية، فقال: لسه في أمالكا (أميركا) مخترعين جهاز بتسمع فيه الصوتْ وبتشوف الصورة وإنته قاعد في بيتك!
هون صاروا الشباب يتبادلوا النظرات من تحت لتحت، على أساس أن عقل الآغا طق. ولما طلعوا من مضافتُه حَلَفْ واحد منهم يمين إنه ما عاد يزور هالآغا الملعون بعد هالمرة، وقال لرفاقه: شايفنا فلاحين ومفكرنا أغبياء ما منفهم.. منشان هيك كذب علينا كل هالكذب.
وكان معهم واحد اسمه أبو محمود اعترض عَ كلام رفيقه وقال له: الآغا ضَيَّفْنا قهوة، وشاي، وحلويات، وخلانا نسمع راديو، أيش بدنا أحسن من هيك؟ يا سيدي خليه يكذب لحتى ينفتق!