المظاهرات الطلابية ومعركة الوعي ضد التخدير السياسي
رغم مرور أكثر من نصف سنة على انطلاق الحرب في غزة وقتل الآلاف من الفلسطينيين، فإن آلة القتل والتنكيل ضد أهالي غزة تواصل عملياتها من دون تردد أو تراجع في وتيرة القتل والإصابات، وفي غياب تام لأي تأثير للمؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية بموقف إسرائيل في إيقاف الحرب، بل العكس، الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، شكلت الدرع الحامية لإسرائيل في مجلس الأمن، بتسخير حق الفيتو في خدمتها.
كذلك إنّ ازدواجية معايير هذه الدول الغربية في تعاملها مع ما يقع في فلسطين، من صرف النظر عن وجهة نظر الفلسطيين، والاعتماد على دعم إسرائيل مادياً وإعلامياً بالتركيز على الترويج للبروباغاندا الإسرائيلية، وحصر النزاع في "حماس - إسرائيل"، وتجاهل تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الطويل، وتفسيرهم الأحادي للحقائق، متناسين بذلك أنّ غزة ليست هي «حماس»، والقضية الفلسطينية تتعلق بحق شعب طُرد من أرضه بشعار أنّ الأرض حق تاريخي لليهود، وأن الفلسطينيين في النهاية عرب بوسعهم أن يتخلوا عن أرضهم وأن يعيشوا في البلدان المجاورة مع أشقائهم، قد شكلت التوصيف الذي يصوّر به الغرب حماية إسرائيل واجباً أخلاقياً.
غير أنّ الشعوب الغربية أبانت عن رغبة معاكسة لما تحاول الأنظمة في هذه البلدان الترويج له. فلأول مرة تكون فلسطين على رأس أولويات الشعوب الغربية قبل العربية التي خرجت مدافعة عنها ضد العدوان الذي تشنّه قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى غاية حدود اللحظة، فتصبح الكوفية الفلسطينيّة الشهيرة والعَلَم الفلسطيني بألوانه، الأحمر والأبيض والأسود والأخضر، مظهراً رئيسياً في المسيرات التي نُظِّمَت في عواصم الدول الغربية والأوروبية. ليصل صيت هذه المظاهرات إلى المؤسسات الجامعية في عدة بلدان غربية، خصوصاً في كل من أميركا وفرنسا، رفضاً منها للمجازر التي تُرتكب اليوم ضد الفلسطينيين، وتشهد هذه الجامعات احتجاجات واسعة من طرف الطلبة والأكاديميين الذين دعوا إلى قطع علاقات تعاون بين جامعتهم والمؤسسات الإسرائيلية، ومن جهة أخرى مناداة هؤلاء المحتجين حكومة بلدانهم للضغط على إسرائيل من أجل إيقاف الحرب وعدم المشاركة في تمويل العمليات العسكرية التي تؤدي بالآلاف من الضحايا.
لأول مرة تكون فلسطين على رأس أولويات الشعوب الغربية قبل العربية التي خرجت مدافعة عنها ضد العدوان الذي تشنّه قوات الاحتلال
وشكلت جامعة كولومبيا انطلاقة للمظاهرات التي انتقلت إلى باقي الجامعات الأميركية، نفس الشيء في فرنسا، حيث عبّر طلبة معهد العلوم السياسية في باريس، عن غضبهم تجاه ما تقوم به إسرائيل من مجازر.
وفي ردّ فعل من السلطة، استعملت القوة في التعامل مع المظاهرات واعتقال عدد كبير من الطلبة المتظاهرين، ما يطرح أكثر من تساؤل عن حرية التعبير والتظاهر في بلدان تُعرّف نفسها بأنها ديمقراطية، علماً أنَّ أية محاولة لإرغام أفراد ذوي آراء مختلفة وشخصيات مُستقلة، على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة وترضاه، يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تكون السلطة السياسية أشدّ عنفاً، إذ أنكرت على الفرد حقه في التفكير والتعبير الحر، ولا سيما أن كل هذه المظاهرات سلمية وجاءت بشعارات سلمية وإنسانية.
والمتظاهرون من طلبة وأكاديميين يُعتَقلون، لا لشيء سوى التعبير عن آرائهم، ويُزَجّ بهم في السجن تبعاً لرغبة السلطة العليا التي تسلبهم حقهم في التعبير الحر، ما يدفع البعض إلى القول إن مصلحة الدولة تستلزم سلب هؤلاء المتظاهرين حريتهم وتجريدهم من حق نقد أعمال الدولة، ولكن التضحية بحرية رأي الفرد معناها التضحية بما يمنح الإنسان إنسانيته ويجعل للحياة قيمة، وما دامت تُعرِّف هذه الدول نفسها بأنها مهد الديمقراطية، فعليها أن تدرك أن الدولة الديمقراطية الحقيقية هي التي تعمل على منح الفرد الفرصة في توجيه سياسة الدولة، من طريق إعطاء صوته وتمثيله وتمكينه بذلك من المشاركة في بحث شؤون الدولة، وهي بذلك توسع المجال لمشاركة الجميع في خلق بيئة نقاش فعال ومنتج.
لكن تعامل هذه الدول مع المظاهرات المساندة لفلسطين يبين أنها لا تكلّف نفسها هذا العناء في منح الطلبة هذا الحق في ما يخالف مصلحتها مع إسرائيل، فتعمد إلى سحق الحريات كافة، وخصوصاً حرية الرأي، وكل الآراء المتعاطفة مع الأبرياء في فلسطين توصف بأنها معادية للسامية وتهدد أمن الدولة الداخلي والخارجي.
وهنا لا بد لنا أن نستذكر أن كثيرين من الغربيين، ومن بينهم رواد منصات التواصل الاجتماعي، تحدثوا عن ازدواجية المعايير الغربية، معتبرين أنه "على مرّ عقود والغرب وأميركا يتكلمون عن القيم الأساسية لحقوق الإنسان المتمثلة بالكرامة الإنسانية والمساواة، وها نحن نعرف الآن أنّ الحياة الكريمة لا تعني إلا فئات معينة من العالم فقط، وفق وجهة نظرهم".
إن ما تشهده الجامعات الغربية من اعتقالات وتعنيف للطلبة المتعاطفين مع فلسطين، وتجريم المقاطعة التجارية للمنتجات الإسرائيلية، والسعي لتقييد حرية التعبير في وسائط التواصل الاجتماعي، يجعل من بنود عن حرية الرأي والتعبير في دساتيرها أسيرة إطارها الشكلي أو في ما يخدم مصالحها، حيث الانتهاكات والتعسفات الأخيرة لحرية الرأي في هذه الدول، التي يتعرض فيها الطالب أو الأكاديمي للسجن والتعذيب. ثم إنّ أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى السجون هؤلاء الشرفاء وكأنهم مجرمون، جريمتهم الدفاع عن القيم الإنسانية والأخلاقية والوفاء لمبادئهم والتضحية في سبيل الحرية، وهكذا كلما قلّت حرية الرأي عند الناس، اشتد عنف السلطة وأصبح القمع الدعامة الأساسية للحكم.
وأخيراً، فالدولة الديمقراطية هي التي تمنح للمواطن مساحة من الحرية في الاختيار والتمييز بين الخطأ والصواب، ما يجعله كفيل الاجتهاد للوصول إلى الحقيقة، وتزوده بتفكير مستقل، ولا يمكن الادعاء أن وضعاً كهذا مضاد لمصلحة الدولة، لأنَّ التفكير الديمقراطي يؤمن بأنّ آراء الإنسان الأخلاقية والسياسية من اختصاصه وشؤونه. فمن حقه أن يكون له الحرية فيها دون تدخل الدولة، التي تبقى مهمتها الأساسية الاستجابة لمتطلبات الجماهير، وليس لقمعهم.