المقلوبة الفلسطينية شعار المرحلة
على مدار أيام شهر رمضان المبارك، كنا نشاهد المرابطات في المسجد الأقصى يطبخن المقلوبة الفلسطينية على نار الحق غير آبهات لنار الباطل القريبة منهن، كان المشهد يضج بالحياة والإصرار، ويترك في قلب الناظر حسرة، فيغبط اليد التي طبخت، واليد التي أكلت، واليد التي نافحت عن البلاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد.
لذلك، يمكننا اعتبار "المقلوبة" شعار المرحلة الحالية، ليس لأنها كانت الأكلة الرسمية للمرابطات والمرابطين وحسب، بل لأنّ كل الأشياء التي تجري في عالمنا العربي الممتد من النكسة إلى النكبة، ومن الدم المستباح إلى الخنوع والانبطاح غدت مقلوبة، فالباطل صار حقاً، والكذب صار صدقاً، والعدو صار صديقاً، و"الاختيار" الخاطئ صار دليل وطنية وبطولة، وبقدر ما أتقن ياسر جلال دوره، كنت أشعر أنه سيقوم بتعطيل دستور المسلسل ومد حلقاته بالقوة المفرطة، والانقلاب على المخرج، وزج بقية الممثلين في السجون، والدعوة لتصوير الجزء الرابع مبكراً، وتوقيع عقد مع الجهة المنفذة يضمن له دور البطولة حتى لو تم تصوير "الاختيار 25".
زمان، حين كنا نقرأ معلومة تاريخية ثبت عدم صحتها، كنا نسأل أنفسنا: كيف صمت الذين عاشوا في تلك الفترة عن تزوير التاريخ؟ لكننا في "الاختيار" نعيش الحدث ذاته، ونرى بأم أعيننا كيف ألبسوا الظالمين ثوب العدل والعفة، وكيف صارت الانقلابات دليلاً على نُبل العسكر مقابل وحشية المتظاهرين السلميين والجثث التي احترقت بغير ذنب، وكيف صاروا يوثقون هذه المأساة على أنها أعظم انتصاراتهم بدلاً من الانكسار خجلاً وحياءً من ذنبهم العظيم.
المضحك المبكي أن بشار الأسد أصدر بعد الفيديو بأيام مرسوماً يقضي بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 إبريل/ نيسان 2022
على ذكر حرق الجثث، سؤالان سيتبادران إلى ذهنك حين تشاهد فيديو مجزرة حي التضامن في العاصمة السورية دمشق، الذي يعود لعام 2013، ويوثق قيام مجموعة مسلحين تابعين لقوات النظام السوري بإعدام 41 مدنياً، بينهم 7 نساء وعدد من الأطفال، ثم رميهم في حفرة قبل إضرام النيران في جثثهم..
السؤال الأول مفاده: هذه الإعدامات التي افتضح أمرها وشاهدناها على الهواء مباشرة، ماذا عن تلك التي لم توثقها الكاميرات وكان ضحاياها السر الذي رمي في البئر؟
وأما السؤال الثاني الأشد إيلاماً فحتماً سيقودك إلى شعور أهالي الضحايا وهم يشاهدون الفيديو: هل عرفوا أنها تخصهم، تلك الأجساد التي كان حثالات النظام السوري في حالة زهق فروحوا عن أنفسهم بقتلها وحرقها؟
ذلك المسن الذي صرخ متألماً: "يا باااي" حين وقع في الحفرة قبل إعدامه، هل عرف أبناؤه أنّ هذا الصوت الموجوع يعود لأبيهم؟ لعلهم كانوا يواسون أنفسهم في غيابه بأنّ "الغايب حجته معه"، ولم يتخيلوا أن الحِجة ستكون أبشع فيديو في تاريخ البشرية.
أتخيل منظر الأم التي ميزت ريح ابنها من بين الجثت، صحيح أن الصورة كانت من بعيد، لكن هذا القميص الأحمر يخصه، اشترته له بنفسها قبل اندلاع الثورة بشهور، كانت تريد له أن يتميز عن غيره حين يرتديه ويمارس حياته، ولم يكن في حسبانها أن القميص سيميزه عن غيره فعلاً، لكن في الموت لا في الحياة!
المضحك المبكي أنّ بشار الأسد أصدر بعد الفيديو بأيام مرسوماً يقضي بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 إبريل/ نيسان 2022 عدا التي أفضت إلى موت إنسان، بينما جاء تبرير العفو بأنّ الدولة السورية تريد مصالحة أبنائها الذين تورطوا بجرائم إرهابية رغم أنها جرائم خطرة وفتح صفحة جديدة معهم، هل ثمة رحمة أكثر من ذلك؟ نتسلى بقتلكم ونشردكم ونمزق البلد في سبيل بقائنا ثم نمنن عليكم بالعفو!
الأمور "مقلوبة" فعلاً، فبينما دنست أقدس مقدسات الأمة العربية في الشهر الفضيل، اجتمع السفراء العرب على طاولة رئيس الكيان الغاصب، ونرى التطبيع جهراً بعد أن كان المطبعون يتوارون عن القوم من سوء فعلتهم.
حسرة في اليمن، ومرارة في العراق، وإفلاس في لبنان، أما في الأردن (بلد مُحدثكم) فالأمور ممتازة للغاية، لأن أي انتقاد سيكلفني أن أكتب لكم المقالة القادمة من السجن، فالديمقراطية في وطني وفي الوطن العربي عموماً تعني: أنا أفكر، إذن أنا محبوس.