الهيرمونطيقا والنص القرآني (1)
أين أخطأت القراءات الحداثية للتراث الديني الإسلامي؟ ربما تتعدد الآراء هنا، لكن بدون شك فإن إحدى أهم المعضلات الأساسية غير المغتفرة، هي الإسقاط المنهجي، والمقصود هو استعمال مناهج جاهزة في قراءة التراث، حتى من دون السؤال عن مدى شرعية هذه المناهج، أو مدى علميتها ومصداقيتها.
فالمناهج التي أنشئت في بيئة مختلفة، كيف يمكن إسقاطها على بيئة فكرية أخرى مخالفة لها؟ وكأن الأمر أشبه بزرع عضو في جسد مغاير للجسد الأصلي الذي انتزع منه العضو الأول، بدون شك فإن هذا العضو المزروع سيبدأ في التعفن، ومن ثم قد يصيب الجسد كله من خلال انتشار الجراثيم فيه، لكن يبقى السؤال هل كان لا بد من استعارة المناهج في قراءة التراث؟ ألم يكن في التراث نفسه ما يغني عن استعارة مناهج أخرى من خارجه؟
على رغم اختلاف الآراء في الإجابة عن هذا السؤال، إلا أنني ألحظ أن هذه الإجابات لم تكن تخرج عن إطارين، الأول هو الرفض التام لهذه المناهج، والاكتفاء بالطرق، وأؤكد هنا الطرق وليس المناهج، التقليدية في التعامل مع التراث، في المقابل على اختلاف درجة هؤلاء إلا أنهم جميعهم يؤمنون بضرورة استعارة هذه المناهج، فبعضهم يرى أنه لا بد من إدخال تعديلات بسيطة عليها حتى تلائم التراث، فيما آخرون يرون أنه لا بد من تطبيقها حرفياً، وهنا تأتي دعوة المنادين بالقطيعة المنهجية مع التراث.
فيما نجد أن هناك فئات أخرى تمارس دور النفاق، لا يهمها إلا الحفاظ على مصالحها، فإذا كانت المصلحة في المناهج الحديثة فهم معها حتى النخاع، وإذا كانت المصلحة في التراث فهم أيضا كهنته، هؤلاء للأسف لا يقرون على قرار، ولا يصعب كشفهم من خلال تناقضاتهم التي لا تعد ولا تحصى.
بين أولئك وهؤلاء يتساءل الجادون ما الحل، أو ما العمل؟ أليس هذا هو مأزق العالم العربي الحقيقي إلى اليوم، رغم تحول مظهره إلا أن السؤال الذي ظل يسكنه هو نفسه الذي طرح منذ قرن ونصف تقريباً، ليس الغرض هنا مناقشة هذا الإشكال، لكن فقط الإشارة إلى إحدى أهم المعضلات التي تواجه المشتغلين بالتراث، وأقصد هنا القراءة التأويلية للنص القرآني، فهناك اليوم من يرى أن لا بديل عنها، بحجة أن القراءات القديمة لم تعد صالحة اليوم، وتحت هذا المبرر نجد الكثير من المنادين بضرورة استعارة المنهج التأويلي لقراءة النصوص، لكن ألم يكن في التراث ما يغني عن هذه الدعوة.
الاستشراق كان من أحد أهم دعاواه أن هذا التراث هو سبب تخلف المسلمين، لكن هل كانت تلك الدعاوى صحيحة، أم أنها فقط كانت تروم زرع الشك في نفوس المسلمين تجاه حضارتهم؟
معلوم أن الهيرمونطيقا أو فن الفهم كما سماها شلايرماخ، كان سياق ظهورها هو إشكالية قراءة النص الديني في التراث المسيحي، وذلك نظرا لصعوبة قبول ما فيه من ألغاز وتبين بطلان الكثير من الادعاءات والقصص الخيالية فيه، خاصة بعد بداية الكشوفات الجغرافية وتطور العلوم، فلم يبق من المعقول، قبول تلك الألغاز الموجودة في النص، فكان لا بد من تقديم طريقة جديدة في قراءته أو التخلي عنه بطبيعة الحال، فكان الخيار الأول هو الأقرب، وبعد مدة من تقديم هذه القراءات الجديدة سيؤول الأمر إلى التخلي عنه كما هو معلوم، سيتطور هذا المنهج ليصبح هو الأساس لقراءة جميع النصوص، وخاصة بعدما أصبح الإنسان عائماً في بحار الشك، ولا يؤمن بوجود حقائق مطلقة.
لنأت الآن إلى السياق الإسلامي، هذه الدعوى لم تنتقل إلى العالم الإسلامي، إلا في العصر الحديث، يمكن القول تجوزاً مع بداية القرن العشرين، وخصوصا بعد ما سمي بالصدمة الحضارية، ولا بد من التنبيه هنا إلى أن العلوم في هذا الوقت كانت في أوج تطورها، كما أنه كانت قد بدأت تظهر عدة علوم جديدة، مثل علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ وغيرها، فقط لمحاولة تصور ما مدى الصدمة التي كان أمامها العلماء المسلمون، لتبدأ الدعوى بضرورة التخلي عن التراث، أو ضرورة تأويله، حيث أن الاستشراق كان من أحد أهم دعاواه أن هذا التراث هو سبب تخلف المسلمين، لكن هل كانت تلك الدعاوى صحيحة، أم أنها فقط كانت تروم زرع الشك في نفوس المسلمين تجاه حضارتهم؟ ثم ماذا عن تراث المسلمين في قراءة النص الديني حيث ظهر هناك علم مستقل وهو علم التفسير؟