الوثيقة من بعد الميثاق: مفارقات الديمقراطية السريّة الحكيمة
هاني عواد
باحث وكاتب فلسطيني ومرشح لنيل شهادة الدكتوراه. صدر له عام ٢٠١٢ كتاب بعنوان تحولات مفهوم القومية العربية، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات المنشورة في دوريات علمية محكمة.
المفارقة الأولى في وثيقة حركة "حماس" الجديدة أنها ذات وجهين، فهي من الناحية الأولى وثيقة ذات طابع دستوريّ تحمل مبادئ توجيهيّة تتوخّى استبدال ميثاق الحركة المليء بـ"اللت والعجن". وهي في بعض بنودها لا تلمّح ببرنامجٍ سياسيٍّ فحسب، بل تقرّ به. ليس من المفترض بدساتير الأحزاب السياسيّة فضلًا عن حركات التحرر الوطنيّ أن تحمل برامج سياسيّة، لأنّ الدساتير كالأناشيد نادرًا ما تتغير بينما البرامج السياسية هي كلام، هي خطط عمل وُجدت أصلًا ليتم تغييرها وتعديلها. "حماس" كسرت هذا التقليد وضربت عصفورين بحجرٍ واحد. لماذا؟
لأنه في الحركات ذات الطابع الأيديولوجي كـ"حماس" لا يمكن فرض الخطط السياسيّة إلا بهذه الطريقة. تُفرض البرامج السياسية على شكل مواثيق ونصوص دستورية من فوق الغيوم، من رأس الهرم الذي لا يقبل المناقشة. يقول الكثيرون إنَّ "حماس" تسير على خُطى "فتح"، ولكن "حماس" ليست "فتح". ليست بمطواعيتها؛ لأنها حركة أيديولوجية، بينما "فتح" حركة شعبية وطنية، والحركات الأيديولوجية المصممة على نمط الأحزاب اللينينية لا تحتمل اختلافًا واسعًا للآراء، فاختلاف الرأي أمام الناس عيب ولا يجوز، لذلك على البرنامج السياسي أن يأخذ طابع الدستور. يجب أن يُحاك بسريّة بعيدًا عن الأضواء، أن يُفرض من الأعلى لكي يلتزم به الجميع. وعلى القواعد من بعد ذلك البحث عن الحِكمة التي لم تُدرك منذ كِتابة الميثاق الأوّل. وأن تُنَظِّر من بعد ذلك لحِكمةِ ديمقراطية قيادتها السريّة!
كلّ الكلام بالمجّان إلا لام التعريف فمهرها غالٍ
لا تكمن المفارقة الثانية في أنَّ حركة "حماس" في وثيقتها الجديدة أقرّت برنامجًا سياسيًا ليس برنامجها فحسب، بل ولأنها أيضًا لم تعترف بالجهة صاحبة هذا المشروع، حاملة براءة اختراع حل الدولتين، منظمة التحرير الفلسطينية. لقد كان بإمكان "حماس" أن تختصر جميع هذا الجدل حول موقفها من حدود حزيران/يونيو 1967، ومن حل الدولتين، لو كتبت بلغة صريحة وواضحة أنها تعترف بالمنظمة ممثلًا وحيدًا للشعب الفلسطينيّ، واعتبرتها "الإطار الوطني" بلام التعريف الغالية. لقد كان بإمكانها كما الفصائل الفلسطينية الأخرى (كحركة فتح والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين) الاحتفاظ بميثاقها القديم والاختباء وراء مسؤولية المنظمة عن كل المبادرات السياسية المطروحة مع إسرائيل. ولكنها فضّلت بدلًا عن ذلك أن تضع أقدس مقدساتها على المحكّ، مقابل أن تبقى في موقع الندية أمام المنظمة. لقد دفعت "حماس" ثمنًا غاليًا مقابل لام التعريف التي أزالتها من "الإطار". لقد كانت بحقٍ لام تعريف غالية.
لو اعترفت "حماس" بالمنظمة لربما أعطت الأخيرة قبلة من قُبلِ الحياة، ولربما أحرجت حركة "فتح" المتحصنة بشرعية الاعتراف الدوليّ، ولسحبت البساط من تحت كومة من الفصائل التي تعيش على إرث "التمثيل الوطنيّ". ولكنَّ الأهم من ذلك أنها كانت ستريح نفسها من عناء كتابة الخطط السياسية التي تفوح منها روائح التنازل. لكن ما يتوضّح يومًا بعد يوم أنَّ اتجاهًا وازنًا داخل "حماس" لا يرى نفسه بديلًا داخل منظمة التحرير، بل يرى نفسه بديلا لمنظمة التحرير ذاتها. هذه معضلة حماس التي فوّتت هذه المرّة أيضًا مراجعتها.
قُساة الوُجوه، صِلابُ القُلوب الذين لا يجيدون سِوى المُقاومة
أما المفارقة الثالثة فهي أن الوثيقة بما قد تحمله من واقعيّة سياسيّة (أو نضوج سياسي كما يحلو للبعض تدليعها) قد وُلدت في ظل اعتلاء النخبة السياسية الأكثر تشددًا سدة القيادة في الحركة. وليس المقصود هنا التلميح إلى صعودِ شخصيّات معينة إلى رئاسة المكتب السياسي وكتائب القسّام، بل المقصود تبوؤ تيّار كامل محسوب ثقافيًا واجتماعيًا على منطقة واحدة فقط من فلسطين ألا وهي قطاع غزّة. في هذا السياق، ليس علينا أن نفهم الوثيقة بوصفها تطوّرًا في التفكير السياسيّ لـ"حماس" فحسب (وهو تطوّر مهم بلا شك)، بل بوصفها أيضًا ثمرة مُساومة تاريخية بين "الداخل" و"الخارج"؛ تلك الثُنائيّة التي حكم جَدَلُها تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وساهم بحفر مسارها المتعثر. بهذا المعنى، فالوثيقة كانت الثمن الذي قدّمته "حماس- غزّة" مقابل تسلّمها -أخيرًا- قيادة الحركة التي لطالما نظرت إليها على أنّها من حقّها.
لا يمكن فهم وثيقة "حماس" دون وضعها في سياق تراجع جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، وانحطاط مشروع الإسلام السياسيّ ووعي "حماس" أخيرًا لحاجتها للالتقاء مع "آخرين" على المستوى الوطنيّ. ولكن لا يمكن أيضًا فهمها دون وعي الجهود التي قادها خالد مشعل بنفسه. لقد أصبح واضحًا للمتابعين لشؤون الحركة أن مشعل، بحكم تكوينه أوّلًا وموقعه في الخارج، بالإضافة إلى انفتاحه على طيف واسع من النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية العربية، هو سابقٌ فكريًا وسياسيًّا على عموم قيادات الحركة. غير أن مشعل بوصفه رئيسًا لـ"حماس" ليس "حماس" نفسها، ولا يستطيع أن يجبر الحركة التي يتموضع ثقلها الأساسيّ بغزّة على التحرّك بسرعته، أو على تفهّم نضوجه السياسيّ. كما أنّه من الواضح أن غزّة بحكومتها الحمساوية، وبثقلها التنظيمي وبقسّامها، أصبحت بحكم الأمر الواقع المسيطرة والمحتكرة للقرار الحمساوي أصلًا. وليس هذا المكان المناسب لشرح ما يعتري تصوّرات النخبة الحمساوية الغزاوية عن العالم وعن نفسها أيضًا. إنّها تصوّرات بالكاد تستطيع تفهّم استمرار من هو مثل خالد مشعل في منصبه.
في هذا الصدد كان على مشعل أن يستخدم ما تبقى له من نفوذ ورمزية حتى يبقي الأبواب مفتوحةً تجاه حركة "فتح" والفصائل الفلسطينية وحتى العالم. فُولدت الوثيقة التي يمكن اعتبارها تسويةً برامجيّة بين غزّة والخارج. إنها نقطة في المنتصف تبدو واهية لمن هم مثلنا في الخارج، وتبدو متهوّرة وجريئة لمن يعيشون في عالم "حماس"- غزة. وكانت هذه الوثيقة الثمن الذي تسلّمت به أخيرًا غزّة رئاسة الحركة بعد سنوات من المشاكسة والحرد.
بالنسبة للكثيرين، تلك الوثيقة التي "تزوّجت" بموجبها "حماس" نفسها. التقى بواسطتها داخلها وخارجها بعد سنواتٍ طويلةٍ من التراقص السياسيّ، ولكن بالنسبة لآخرين فإنَّ كلَّ ذلك ليس إلا عودة حمساوية لأصلها. عودة لـ"حماس" كظاهرة اجتماعية غزاوية فصّلت غزة على مقاسها، وفصّلت نفسها على مقاس غزّة.
باحث وكاتب فلسطيني ومرشح لنيل شهادة الدكتوراه. صدر له عام ٢٠١٢ كتاب بعنوان تحولات مفهوم القومية العربية، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات المنشورة في دوريات علمية محكمة.