الوجه الديمقراطي لعملة السلطة المستبدة
الرعب الذي دبَّ في أوساطِ الطبقةِ الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية بسبب حراك طلبة وأساتذة الجامعات الأميركية المُطالبين بإيقافِ الإبادةِ الجماعية في غزّة، والمتضامنين مع الحق الفلسطيني بالحريّة والعدالة وتقرير المصير، وما تبعه من ردّةِ فعلٍ عنيفة وقمعٍ في عمليةٍ لا تختلف صورها عن أيّ عمليةِ قمعٍ للمدافعين عن الحقوق في أيّ من جمهوريات الموز حول العالم، يؤكد أنّ السلطة في عالمنا المعاصر، أيًا كان شكلها، لا تختلف في جوهرها وهدفها المتمثل في الحفاظ على هياكلها ومكتسبات نخبها الحاكمة وحلفائها، وآخر همومها ما يريده مواطنوها.
وما أشبه اليوم بالأمس، فقبل أربعة وخمسين عاماً تقريبًا، استدعت السلطات الأميركية الحرس الوطني إلى حرم جامعة ولاية كينت في ولاية أوهايو لقمع الاحتجاجات الطلابية على الاستمرار في حرب فيتنام. وتصاعد الموقف آنذاك، ليطلق الحرس الوطني النار ويقتل أربعة طلاب. هذه مجرّد عينة على حادثةٍ تتماهى تمامًا مع ما نراه على الأرض اليوم في جامعات كولومبيا، ويال، وجورج واشنطن، والعشرات غيرها في أميركا وحول العالم. وكأيّ نظامٍ إعلامي مُهلهل في جمهوريةِ موزٍ، بدأت السلطة في أميركا وأذرعها الإعلامية في شيطنة المحتجين، وبدلًا من أن ينقل الغرب تجربته في الحرية للعالم، استلهم من الديكتاتوريات أسوأ ما فيها من أساليب القمع والإرهاب وتكميم الأفواه وشيطنة المختلف، متجاهلًا أنّ سيطرته على الإعلام قبل نصف قرن، والتي مكنته من شيطنة المحتجين وتأليب الرأي العام عليهم (على الأقل كما أظهرته بعض الدراسات واستطلاعات الرأي آنذاك) لم يعدْ مُمكنًا في عالمِ اليوم الذي يستقي الشباب فيه الأخبار من "تيك توك"، ولربّما لا يعرفون بوجود "نيويورك تايمز" و"فوكس نيوز". هؤلاء الشباب الذين سيتولون زمام الأمور بعد بضع سنوات، فور انتقال ديناصورات الأجيال الحاكمة الحالية إلى الجحيم. ولربّما، هذا ما يثير الرعب في أوساطِ الطبقة الحاكمة ويدفعها لإسقاطِ القناع وإظهار وجه السلطة الحقيقي الذي لا يختلف عن الوجه البشع لأيّ مستبدٍ خبره الشرق الأوسط.
السلطة في عالمنا المعاصر أيًا كان شكلها لا تختلف في جوهرها وهدفها المتمثل في الحفاظ على هياكلها ومكتسبات نخبها الحاكمة وحلفاءها
كمية القمع للحريات، والشيطنة، وجهود استحضار مكارثية أميركا، أعادت للأذهان الصورة الحقيقية للسلطة الغربية التي تكشّر فيها عن أنيابها في اللحظة التي تشعر بها بأيّ تهديد وجودي لها بما هي طبقة حاكمة وليست وطنا. حتى لو كان هذا التهديد ضمن مظلّة الحريات، والتحوّل الديمقراطي، والانتقال السلمي للسلطة، وهي ذات المبادئ التي تتباهى فيها سلطات الغرب في أوقات الهدوء، وتلفظها أسرع من الضوء عندما يبدأ المزاج العام بالتحوّل. بغضِّ النظر عن شكلِ الحكم، سواء كان ديمقراطيًا أو مستبدًا، تسعى الطبقة الحاكمة دائمًا في ظلّ هياكل الحكم المتاحة حاليًا إلى الحفاظ على سلطتها وامتيازاتها. وقد يُعدُّ هذا السعي لتحقيق المصلحة الذاتية جانبًا أساسيًا من الطبيعة البشرية، وغالبًا ما ينعكس في تصرّفات وسياسات النخب الحاكمة.
كلُّ هذا أوصل العالم إلى تقبّل حقيقة أنّ السلطات في عصرنا هذا تُناط ظاهريًا بالشعب من خلال انتخابات منتظمة، تتم هندستها بغضِّ النظر عن الطريقة، وتنجم عنها مؤسسات شكلية، مما يؤدي حكمًا إلى تشكيل الطبقة الحاكمة من النخب السياسية والأفراد الأثرياء والشركات وجماعات الضغط المؤثرة. وليس بالضرورة أن يكون التلاعب بالإنتخابات، فجًا مباشرًا، من خلال سرقة الصناديق، بل يمكن هندستها من خلال تكتيكات مختلفة للتلاعب بالعمليات الانتخابية وضمان نتائج إيجابية للسلطة الحاكمة، بفرضِ أطر انتخابية تضمن إفراز ما تريده السلطة من أُرجوازات، وقوانين انتخابية مفصّلة على مقاسِ السلطة، وتقسيم الدوائر الانتخابية والتلاعب بها، أو قمع إقبال الناخبين بين فئاتٍ سكانية معيّنة، أو التضييق على المرشحين غير المرضي عنهم، أو الاستفادة من الموارد المالية لتمويل الحملات الانتخابية والتأثير على الرأي العام، كلُّ هذا مدعومًا بالسيطرة على وسائل الإعلام المرتزقة، مما يساعد في إدامة هيمنة الطبقة الحاكمة من خلال التحكّم في السرد وتشكيل التصوّرات العامة.
ليس بالضرورة أن يكون التلاعب بالإنتخابات، فجًا مباشرًا، من خلال سرقة الصناديق، بل يمكن هندستها من خلال تكتيكات مختلفة للتلاعب بالعمليات الانتخابية
حتى مؤسّسات التشريع والرقابة والحوكمة لم تسلم من هذه المنظومة وتمّ الاستيلاء عليها من قبل الطبقة الحاكمة وحلفائها لتعزيز مصالحها. وباتتْ التشريعات ذات الأهمية في الغرب تُفَصَّل على مقاسِ هذه الطبقة بإصدار تشريعات مواتية لمصالحها، والتأثير على القرارات السياسية، وتعيين الحلفاء في مناصب مؤثرة.
وعلى الرغم من واجهة السيادة الشعبية خصوصًا في الغرب، فإنّ هذه النخب تستمر في استخدام ثرواتها وعلاقاتها ونفوذها لتشكيل الرأي العام، والسيطرة على الأجندة السياسية، والحفاظ على قبضتها على السلطة. وعندما لا يفلح كلُّ ذلك، تتحوّل الديمقراطية إلى جمهورية موز، وتستدعي مرتزقة الشرطة والحرس الوطني، وحتى مشاة البحرية، لقمعِ أيِّ صوتٍ حرٍّ يمكن أن يهدّد مصالحها. وبعد كلّ هذا هل يوجد نظام فعّال وكفؤ في الغرب؟ بالتأكيد، ولكنه نظام شرير في جوهره، وعند لحظةِ الحقيقة لن يختلف عن أيّ مستبد.
باختصار، ومع سوداويةِ المشهد في الدول المستبدّة والشمولية، فإنّ الوضع لا يبدو مشرقًا على الجانب الآخر، فللأسف في عالمنا الحالي، سواء في الأنظمة "مدعية" الديمقراطية أو غير الديمقراطية، فإنّ المصلحة الأساسية للطبقة الحاكمة باتت محصورة في تعزيز وإدامة سلطتها وامتيازاتها مع إمكانية رمي الفتات هنا وهناك، إنْ لم يتعارض مع مصالحها. وفي حين أنّ الآليات والتكتيكات المستخدمة، قد تختلف تبعًا للسياق المحدّد، فإنّ الهدف الأساسي يظل ثابتًا، ألا وهو حماية مصالح النخبة الحاكمة على حساب الرفاهية المجتمعية الأوسع ومبادئ الديمقراطية والعدالة والحرية الحقيقية.