الوعي بأبجديَّات المعنى
لعلّ المعجم لم يكن مُنصِفًا في تعريفِ ماهيَّة التخاذل كما نشعر به اليوم، لم تذكر المعاجم أنَّ التخاذل عارٌ يرتديه جارٌ، وجمرٌ لظاه صارم، وأمَّة حِماها في غار حِراها.
نقول: تَخاذلَ القَوْمُ وَأخذَ كلٌّ منهم طريقه: أي خذل بعضهم بعضاً، تخلَّى كلٌّ منهم عن الآخر. التخاذل حالة لا مثيل لها من الضعف والخوار والتكاسل عن مناصرةِ شعب أعزل محاصر، بحرًا وجوًّا وبرًّا، التَّخاذل حالة تمرُّ بها الأمَّة اليوم تُعلِنُ فيها استسلامها لواقع السواد وإفلاسها قيميًّا وعقائديًّا، وهذا، بالضرورة، يُنبئ بتخاذليَّةٍ واضحةٍ في مواجهةِ ظلمات العقل وخلجاتِ القلب الذي يعيشُ في سباتٍ عميق منذ زمنٍ بعيد.
وانطلاقًا من أبجديَّات الحياة؛ فإنَّ الكينونة بكلِّ أبعادها ترتكزُ على ركنين أساسيَّين؛ الأوّل يتمثَّل في الوعي، والثاني يتمثَّل في العمل. والوعي بمفهومه الواسع هو فَهمٌ ونفيٌ وإدراك، أمَّا العمل حركةٌ وجهدٌ وتحييد، لذلك من المهمّ أن نُدرك ماهيَّة القضيَّة ونعي تفاصيلها ومجرياتها كخطوةٍ أولى عند المبادرة لدعم أيّ قضيّة كانت، ذلك من باب إثبات أحقيتها بأنْ تكون قضيَّة.
في المقابل نستحضرُ مفهوم العجز الذي يظنّه الكثيرون حالة قدريَّة يكون فيها المرء أضعف من تغيير المشهد بالمُجمَل، إذْ تستحيل فيه إقامة مقتضيات العمل الواجبة؛ وبعد أدلجةِ العقل والمنطق تتحوَّل إلى عاهةٍ مستديمةٍ من الخوار في المحضر والجوهر، والأجدر بنا أن نقول: إنَّ بعض العجز حالة اختياريَّة يُخدِّر المرء فيها نفسه لتسكين ضميره ولتستكين معه مشاعره. أجل؛ لن تُفكِّك مثلثات نجمة داود الليلة، ولن تُصلِح العالم غدًا، ولن تُصلّي في الأقصى بعد الغد، لكن في وسعك فعل الكثير وإنْ كان قليلًا في ظاهره!
كلُّ جهدٍ مبذول من أجل العدالة والخير ورفع الظلم عن المظلوم، مهما بدا لنا متواضعًا، لن يضيع
أما عن العملِ ومقتضياته: العمل مُلازم الوعي، فلا يُخيّل لك أنّهما منفصلان؛ العمل والوعي وجهان لعملةٍ واحدة، طالما تمكَّن الوعي؛ وُجدَ العمل، لذلك نقول لا تبقوا سجناء التفكير الجمعي الضبابيّ، ابتعدوا عن الآراء الضحلة، لا ترضوا بالتلقين والتلقيم، لأنَّه من المعيب أنْ تكون بالغًا عاقلًا وترمي بنفسك خارج النَّصّ؛ لتقنعَ نفسك بثمنٍ بخس جزاء صمتك واستكانتك وجمود تفكيرك، راكِم من المعرفة والوعي ما ترى وتسمع، اقرأ ما مضى، وتمعَّن فيما جرى، واصنع رأيك وصوِّب رميك، ولا تقعدنّ مع القاعدين. إنَّ تعميم مقاربة تُسوِّغ السكوت والخنوع من مدخل اللُّغة الناعمة، هذا هو عين الذلَّة، أتكلّم عن ملايين العقول التي جرى تلقينها الخوف بدراية. إنَّها عقدة النقص والاضطراب والركوع واليأس والمهانة.
حقيقة؛ تستوقفني مواقف كثيرة، ولكنّني أعجبُ من المتخاذلِ الجاهل بتخاذله؛ عزيزي هل تعلم أنّ تبلّد مشاعرك تجاه المحرقة تخاذل؟ هل تعلم أنّ اقتصادك في النصيحة تخاذل؟ هل تعلم أنّ حياتك الطبيعيّة صورة من صور التخاذل؟ رفاهيتك في أوج المذبحة تخاذل، إظهار فرحتك ومزاجك الحسن في وقتِ الكدر تخاذل، هل نسيت عزيزي أنّ "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"، هل تغاضيت عن "مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، أين أنت من هذا الوعي؟! إنْ كنت على قناعةٍ بغير ذلك؛ هذا يعني أنّك منفصم عن الواقع، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "خمس من علامات الشقاوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل"، وهذه كلّها صفات تتمثَّل جليَّة في شخص المتخاذل.
ولعلّ رأس الحكمة اليوم أنْ نتموضع تموضع المكلوم؛ فكلّ جهدٍ مبذول من أجل العدالة والخير ورفع الظلم عن المظلوم، مهما بدا لنا متواضعًا، لن يضيع، فلتكن البداية بالوعي ومحاربة الجهل بكلّ أشكاله وألوانه.