مع الحديث الذي صار مؤكّداً عن وصول عمي بعد أشهر مع العائدين، ومع معلومات كانت غير واضحة وقتها عن "اتّفاقية سلام دائمة"، اعتقدنا جميعاً أنّ كوابيس جدتي الطويلة ستنتهي فوراً، أو كان هذا ما تتصوّره هي على الأقل. كانت من فترة طويلة تصرخ بما قد حفظناه بعدها عن ظهر قلب: "توفيق مات؟ توفيق مات؟".
لم تصدّق أنّ عمي ما زال حيّاً، إلى أن جاءت صورته من بيروت، بسلاح طويل وبزّة عسكرية. عمي أحد آخر الناجين من مجزرة "قلعة شقيف"، استشهد أكثر من أربع مرات، في إشاعات لا نعرف من أي كانت تجيء على بال أهل البلد والقرى المجاورة. قبلها بوقت قصير، كانت هناك حملة اعتقالات واسعة لمجموعات من "حماس" في الضفّة الغربية، تزامناً مع عملية خطف جندي إسرائيلي وقتله، ورفض إسرائيل الخضوع للشروط التي وضعتها قيادة المقاومة.
كان اعتقال أبي وقتها بسبب نشاطه في الحركة، صدمة جديدة للعائلة، نغّصت علينا عودة عمي، بعد أكثر من عشرين عاماً، إلى بيته. لم يكن اعتقاله حدثاً خارجاً عن العادة، أبي الذي لم يخرج من السجن منذ بداية الانتفاضة الأولى لأكثر من شهر متواصل، لكنّ اعتقاله هذه المرة كان مختلفاً، خاصة مع الكلام الذي كان يشاع عن إبعاد جماعي لكلّ الأسرى المحسوبين على "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان.
الوضع صار غريباً بالنسبة للعائلة: ابن يعود وآخر يذهب. تحديداً بعد إبعاد مجموعة من قيادات "حماس"، قيل إنّهم مجرد دفعة أولى، وأن أبي سيكون في الدفعة التي ستليهم. سمحوا لأمي فقط بزيارته، كانت حاملاً في شهرها الأخير بي، وولدتني قبل موعد الزيارة بساعتين فقط. جئت إلى الحياة في "اللحظة الغلط" بالضبط. بقيت في مخيّلة أمي فترةً طويلة، سبب ضياع فرصتها في رؤية أبي بعد أشهر من الغياب.
بعد عامٍ تقريباً، في أواخر أيّار 1994، رأيت أبي لأوّل مرّة. يومها، تحول فجأة من صورة معلّقة فوق باب الصالون، إلى أبٍ حقيقي مثل كل الآباء، من لحم ودم، تعرّفت عليه منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الزيارة.
سمع كل المحيطين بنا بكائي، كنت أصرّ بطريقة غريبة أن أمرّ إلى داخل السياج الحديدي الذي كان يفصلنا. بكى أبي معي، وكتب بعدها قصيدة طويلة أرسلها لنا مع أحد أصدقائه. علّقت أمي القصيدة مكان الصورة التي خبّأتها، لسبب لا أعرفه، في أحد أدراجها. صار أبي في خيالي صورة لا أعرف مكانها، وقصيدة حفظت أولها:
"بكى وازداد إلحاحاً
أراد السجن عن رغبةْ
فمزق كل أحشائي
وزاد لغربتي غربةْ
عاد عمي في منتصف آب، وتغيّر كلّ شيءٍ في عائلتنا إثر عودته. صرنا نسمع قصصه ليلا نهارا عن أصدقائه، وعن الحرب، وعن بيروت والثورة وعن ياسر عرفات. صار أبانا الذي نفتقده، وصرنا ننتظره لفتراتٍ طويلةٍ أمام باب البيت حاملاً الألعاب والشوكولا، بعد أن صار موظفاً في أجهزة السلطة الفلسطينية.
بعد خروج أبي من السجن، ولقائه عمّي لأوّل مرة من عشرين عاماً، تغيرت حياتنا كلّها، إلّا أحلام جدّتي وكوابيسها، "توفيق مات؟ توفيق مات؟". لم تكن مقتنعةً أنّه ما زال حيّاً، حتّى عندما كان ينام معها في نفس الغرفة.
لم تكن تصدق أنّه حيّ، إلّا عندما ترى صورته القديمة ببزة عسكرية، وسلاح طويل، وجسد ممشوق. جسد لم تكن الوظيفة الجديدة قد أفسدته بعد.