"انتحاريو" العيش الكريم
"سماع إطلاق رصاص في مخيم الرشيدية الفلسطيني جنوب لبنان ابتهاجا بوصول قارب مهاجرين غير شرعي من أبناء المخيم الى إيطاليا". بداية ضحكت لهذا الخبر السوريالي الذي أوردته إحدى الوكالات المحلية السنة الماضية، ثم أحسست بفرحة لا توصف، فحفظته على كومبيوتري لندرته.
كان فعلاً خبراً يثلج القلب، خصوصاً بعد سيل الأخبار المشؤومة، ومنها خبر كان قد سبقه بساعات قليلة عن غرق ما سماه الإعلام اللبناني يومها "زورق الموت"، قبالة جزيرة أرواد السورية، مودياً بحياة ما يفوق المائة ضحية.
ومن قبل ذاك النبأ ومن بعده، ظلت تتوالى أنباء الزوارق التي تحاول الإفلات من مصيدة العيش الذليل في منطقة تعاني منذ عشرات السنين من انسداد أفق العيش الكريم. إنه اليأس المتفاقم بفعل تعطل النمو تارة، أو تعطيله تارة أخرى، سواء بأيادٍ داخلية نمت في مستنقع جمود التطور الوطني، أو بمساهمة قديمة متجددة، والأهم فعّالة، من الخارج، عبر امتصاص الثروات المحلية واستتباع السلطات الفاسدة وحمايتها.
وهذا الأسبوع، فقد عدة مئات من الأشخاص حيواتهم في غرق قاربهم قبالة سواحل اليونان. تم إنقاذ العشرات من القارب الذي أبحر من طبرق في ليبيا في التاسع من الجاري، لكن الخسائر فاقت أعداد الناجين بكثير. ولقد صدمت لجملة وردت في تقرير لإحدى وسائل الإعلام على لسان مسؤول يوناني قال حرفياً إن القارب الذي لا يتجاوز طوله الثلاثين متراً كان يقل ما بين 600 و700 شخص، من بينهم مائة طفل، معظمهم من السوريين والمصريين والباكستانيين. وإن مساعدة عرضت على القارب الذي كان يغرق، إلا إنه رفض المساعدة!
هل هذا معقول؟ كيف من الممكن أن يرفض من يغرق يدا تمد إليه لتنقذه؟ لا أفهم. ربما يجب أن ننتظر قليلاً لكي تسفر التحقيقات عما حدث فعلاً في تلك الليلة الرهيبة.
أما الجملة الأهم؟ فهي تلك التي قال فيها إن العدد الأكبر من هؤلاء الغرقى كان محتجزاً في.. باطن القارب!
يا للهول! لا أقوى على التخيل حتى. ولم قد يحتجزون؟ يجيب أحد الناجين في حديث لوكالة أخبار: بسبب خوف "منظمي" الرحلة من "فوضى على سطح القارب".
طبعاً، الفوضى متوقعة حين تكتشف مثلاً أن سترة النجاة التي جعلوك تشتريها سيئة النوعية، أو أن القبطان هو مجرد صياد سمك جرى تدريبه قبيل الإبحار بأيام فقط، كما حصل في زورق الموت اللبناني أعلاه.
يا إلهي! ألا تكفي المخاطرة نفسها؟ ألا يكفي بيع هؤلاء لكل ما يملكون من أجل الدفع للقراصنة، أو بالأحرى لنخاسي الرقيق البشري، ثمن رحلة غالباً ما تنتهي بالغرق؟ هل يفقد هؤلاء النازحون اليائسون فضلاً عن ممتلكاتهم وأوطانهم، حتى حريتهم وحقهم في السعي إلى النجاة ساعة الخطر؟ هل يقبلون بذلك طوعاً؟
من مكان ما في الذاكرة الأدبية أو السينمائية، تتوالد في مخيلتي صور العبيد المخطوفين والمقيدين في بواطن سفن النخاسة وتجارة الرقيق في القرون الغابرة. أتخيل لحظة الغرق: هلع وصراخ وتخبط لأجل القليل من الهواء، والكل مقيد في مكانه غير قادر حتى على الخروج لاستكشاف ما يحصل. يجتاحني غضب لم أعد أشعر به منذ زمن طويل، بعد أن أنهكتنا أحوال بلادنا بالغضب. وما زاد غضبي، محاولتي الفاشلة تسقط أي إشارة إلى يقظة أخلاقية في تصريحات المسؤولين عن هذا الغرق بهذه الدرجة أو تلك. عن نيّة مثلا في مرونة مستقبلية بما يتعلق بسياساتهم التي أنتجت هذا الواقع الفظيع، أو بإجراءاتهم غير الإنسانية للحد من وصول هؤلاء المهاجرين إلى شواطئهم وحدودهم. عبث. كل ما قيل نفاق بنفاق.
هناك تتمة تحصل داخل الأروقة السياسية لدول اللجوء: حملات إعلامية وانتخابية يستخدمها الطامحون للسلطة فيها، لدعوة الرأي العام إلى مزيد من التقوقع القومي ونبذ «الغرباء»
بعض الأمل يبثه في روعي محرر الموقع الفرنسي "أفريقيا 21" في افتتاحيته عن الحادثة. يقول: "في تمرين أصبح مبتذلاً بقدر ما هو ساخر، يتظاهر القادة الأوروبيون بأنهم متأثرون عندما تتصدر مثل هذه المآسي عناوين الصحف. عبرت فرنسا، على لسان وزارة خارجيتها، عن "حزنها العميق". وقدمت "تعازيها لأسر الضحايا" بعد حادث غرق السفينة الأخير. إنها دموع التماسيح لأنها في الوقت نفسه تقول إنها "مصممة على الاستمرار، بمسؤولية وتضامن، في العمل الذي يتم القيام به مع شركائها الأوروبيين بشأن قضايا الهجرة". بعبارة أخرى: السعي، مع الاتحاد الأوروبي ووكالة حرس الحدود التابعة له "فرونتكس" لمتابعة سياساته للهجرة، والتي يمكن تلخيصها في كلمتين: الوحشية والجبن".
لكن خانة أخبار زوارق الهجرة غير الشرعية لم تعد تقتصر على وصول أو عدم وصول قوارب هؤلاء المغامرين اليائسين، ولا على تعداد الضحايا أو وصف ما يحصل لهم من معاملة وحشية من قبل حرس حدود الدول التي حاولوا اقتحامها فيما يشبه هجوماً انتحارياً من أجل حياة كريمة.
فلقد أصبح المهاجرون غير الشرعيين عنوانا لمروحة كبيرة من الأخبار، إن بدأت بضحايا صدّ الهجرة على حدود البلدان الممانعة، أو بأخبار مرتكبي الجرائم الرهيبة انتقاماً من ذلك الصدّ الرهيب، كما فعل الشاب السوري مؤخراً في فرنسا، فهي لا ولن تنتهي عند ذلك.
هناك تتمة تحصل داخل الأروقة السياسية لدول اللجوء: حملات إعلامية وانتخابية يستخدمها الطامحون للسلطة فيها، لدعوة الرأي العام إلى مزيد من التقوقع القومي ونبذ "الغرباء"، وهو ما يحصل فعلاً. ما يمهد لعودة اليمين الفاشي الذي سبق أن دمر أوروبا، إلى سدة السلطة، في بلدان ناضلت نقاباتها وأحزابها لعقود وحققت مكتسبات اجتماعية باتت اليوم مهددة بهذا الوصول.
لذا، وإلى جانب النازحين الذين يدفعون أثمانا باهظة من المعاملة العنصرية حتى بعد وصولهم إلى البلدان "الآمنة"، قد لا يتوقف دفع الثمن عندهم، بل سيتعداهم ولو بعد حين، إلى مضيفيهم أنفسهم. ولن يكون لذلك سوى وصف واحد: لعنة المهاجرين الغرقى.