بريطانيا "رأس حربة" واشنطن في أوروبا
عماد الشدياق
لم يُعرف ما هو السبب المباشر خلف التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون خلال زيارته الهند قبل أيام. جونسون أقدم على تفجير مفاجأة في نيودلهي وكانت بمثابة اعتراف حين اعتبر أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات قريباً جداً من تأمين جسر بري في مدينة ماريوبول الأوكرانية، ودعا إلى التحلّي بالواقعية، لأنّ الأمور في أوكرانيا ما عاد ممكناً التنبؤ بها!
هذه التصريحات بدت مثل ما يُشبه "التنازل الكلامي"، بعد تصريحات متواترة وعالية السقف أطلقها رئيس الوزراء البريطاني ضد بوتين وروسيا عموماً، منذ اليوم الأول لانطلاق الحرب في أوكرانيا. ربّما تكون هذه التصريحات ذات "الإطراء المبطّن"، مربوطة بالإنجاز العسكري الذي حققه الجيش الروسي في مدينة ماريوبول، وخصوصاً بعد تطويق مصنع "آزوفستال" العملاق المخصص لصناعة الصلب، وأيضاً بعد المعلومات عن احتمال وجود مقاتلين غربيين متعدّدي الجنسيات متحصّنين في أنفاق هذا المصنع، وربّما يكون من بينهم مقاتلون بريطانيون.
وبالتالي، فإنّ الكلام "المنمّق" الذي أدلى به جونسون في العاصمة الهندية، قد يكون محاولة لتهدئة التوتر مع موسكو، ولو قليلاً، إلى حين الوصول إلى مخرج، خصوصاً أنّ كلامه تزامن مع قرار أصدره بوتين وأبلغه وزير الدفاع سيرغي شويغو، قضى بوقف اقتحام المصنع وبمراعاة حياة الجنود والضبّاط الروس وعدم الخوض بدهاليز المصنع أو الزحف تحت الأرض.
لكن في المقابل، بدا بوتين أكثر تشدداً لناحية ضرورة محاصرة المصنع، بحيث "لا تمرّ منها ذبابة واحدة"، وهذا يشير على ما يبدو، إلى أهمية من هم في داخل مصنع "آزوفستال". لكن في موازاة ذلك، لم تبدِ لندن أيّ مرونة في موضوع تسليح أوكرانيا، إذ تؤكد المملكة المتحدة استمرارها بإرسال الأسلحة الثقيلة لدعم الأوكرانيين، وكذلك ضرورة فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ضد موسكو.
ولطالما شكّلت بريطانيا "رأس حربة" في الضغط على تشديد العقوبات الغربية ضد روسيا، كما كانت من بين أكثر الدول حماسة لعزل روسيا عن نظام "سويفت" العالمي بشكل كامل. وهذا يدخل في سياق وصلب السياسة الدفاعية التي وضعتها بريطانيا منذ لحظة خروجها من الاتحاد الأوروبي بداية العام 2020، وذلك بعد المراجعة الشاملة التي أجرتها لسياساتها وقضت بوضع موسكو في خانة "التهديد الأكبر" على الأمن البريطاني، قبل الصين ودول أخرى كثيرة.
وكانت بريطانيا وما زالت في القارة الأوروبية، بمثابة "قاعدة أميركية متقدمة" داخل الاتحاد الأوروبي، ويظهر هذا الدور جلياً في سلوك لندن، التي تتوق في كل الأزمات إلى التماهي مع المواقف الأميركية، ولتكون بذلك بمنزلة "الحليف الأقوى لواشنطن في القارة العجوز".
وتدخل الرؤية الجيوسياسية لبريطانيا تجاه موسكو، في صلب محاولة التصدي لما تعتبره ثنائية "بكين – موسكو". وبالتالي، فإنّ لندن تسعى إلى خلق ثنائية مقابلة لتلك، ويكون عنوانها "واشنطن – لندن". وهذا ما دفع بريطانيا صوب شنّ ما يشبه "الحرب الباردة" الجديدة ضد موسكو، حتى منذ ما قبل الحرب في أوكرانيا.
تذكّر موسكو بأنّ هدف السياسة البريطانية كان على مر التاريخ "توسيع الحدود الإمبراطورية"، وغالباً كان هذا الهدف يترافق مع ما تصفها بأنّها عملية "اضطهاد الشعوب الأصلية وإبادتها واستغلال مقدّراتها، من أجل نشر المنشآت العسكرية في الأراضي المحتلة"
روسيا تعتبر أنّ غريمتها بريطانيا لم تكن يوماً لاعباً سياسياً مستقلاً على الساحة الدولية وتدأب دوماً في الدفاع عن مصالح واشنطن فقط، بينما مصالحها اليوم تتمثل في التصدي لروسيا داخل أوكرانيا وإحباط عمليتها العسكرية الخاصة. من دون أن ننسى حديث بريطانيا الدائم عن ضرورة تسليح أوكرانيا، وهو ما تعتبره موسكو مجرد حجج من أجل أن تُبرر لندن وجودها العسكري في دول الاتحاد الأوروبي وتعزيزه وتوسيعه.
وفي هذا الصدد، تذكّر موسكو بأنّ هدف السياسة البريطانية كان على مر التاريخ "توسيع الحدود الإمبراطورية"، وغالباً كان هذا الهدف يترافق مع ما تصفها بأنّها عملية "اضطهاد الشعوب الأصلية وإبادتها واستغلال مقدّراتها، من أجل نشر المنشآت العسكرية في الأراضي المحتلة".
أمّا في غياب المصادر الموثقة، فيرى الروس أنّ التهم التي يكيلها الساسة البريطانيون حول "التهديد الروسي" لأمنهم وأمن دولتهم، لا أساس لها من الصحة، خصوصاً بعد كشف وسائل إعلامية غربية قبل أشهر عن ملفات تظهر تدخل لندن في أكثر من ملف في المنطقة، وكل هذه الملفات تشهد، بحسب موسكو، على نوايا بريطانيا وعدوانية أنشطة سياستها الخارجية.
هذه الملفات نشرتها مجموعة من القراصنة الإلكترونيين نهاية عام 2021، وكانت سلسلة من المواد التي توضح بالتفصيل والوثائق، عمليات وكالة الاستخبارات البريطانية في أكثر من دولة من دول الشرق الأوسط، ودول البلقان. كما تظهر هذه الوثائق، مراسلات دبلوماسية إنكليزية، تؤكد تورّط بريطانيا في الحرب السورية، وفي محاولات زعزعة استقرار الوضع السياسي في الداخل اللبناني، وكذلك مساندة الاحتجاجات داخل روسيا.
هذا التوتر المتصاعد بين البلدين ينبئ بمزيد من التصعيد على الساحة الأوكرانية، ولا يُعرف إلى أين سيوصل في المستقبل... فهل تكون الحرب العالمية الثالثة على الأبواب؟