بين فكي التفاهة
لحسن ملواني
في زمن التفاهة يسهل اقتراف كلّ شيء، في رحاب الإبداع والإعلام، يسهل تقديم الغث في قالب مبجل يحمل على ظهره حبيبات سكر يخفي وراءه تسميم الألسنة، يجعلها فاقدة البوصلة الحقيقية في التذوّق، تختلط عليه الأمور فيصاب بذعر المضطرب أمام الاختيارات، يُرقي ما لا يجب أن يرتقي، ويُعلي ما يجب أن يدنيه، وهنا يستيقظ شيطان التفاهة كي يعلن سطوته، يقهقه، يملأ بقهقهات النصر كلّ الآفاق، تشاركه في ذلك جملة من المدجنين في حوانيت التفاهة، فتنشأ عوالم غريبة تعتاد من قبل من لا حصن في صدره، ولا غربال في ضميره، هكذا تعشعش التفاهة وتجر وراءها الجحافل تلو الجحافل، وفي كلّ وقت وحين، تزداد في زمن تعدّدت فيه نوافذ النشر والتواصل، نوافذ منحت للتفاهة حصتها في الإطلالة على جماهير واسعة، منها الصغار والشباب والكبار الإناث والذكور، المثقفون والجهلة، الفقهاء والسفهاء.
التفاهة تتفنّن في عرض شباكها، بالمال تغري، بالتعرّف إلى النساء تسحر، بالوعد بزيارة البعيد تبشر.
وهي بذلك تستحكم، وتحتلّ رقعة تجعلها تتسع وتنداح، معتمدة في ذلك على معتنقيها، أهلها وأصحابها الأحباب الأوفياء، المتفانين في خدمتها بالغالي والنفيس، بالعالي من التدابير المحكمة المزينة التي تجعل الأبيض بصورة الأسود، وتجعل الأسود بلون الورد في عزّ الربيع.
ولأنها سهلة التناول، لذيذة المظهر، فقد تعدّد وتنوّع المصطادون بها. وقلّ من لا يؤمن بقدرتها على الانتشار المغرق الذي يجعل النفوس مرغمة على الاستظلال بمظلتها باستحياء العاجز عن قول الحق وصد الغث عن الضمائر.
ومع كلّ ذلك، فشمس الحق قد تحجبها السحب، وسرعان ما تخرج ساطعة تستعيد المؤمنين بجمالها وأنوارها، وقدرتها على القيادة الحقيقية التي تمتلك القاعدة المتينة لتأسيس قاعدة صلبة تمنع الأقدام من الغوص في الوحل، وتبعد عن الأنوف رائحة القاذورات المقدّمة للناس على جنبات الطريق مغلفة بورق الهدايا الثمينة.
التفاهة ترسم دوائر التغفيل، وتزيّن حقول الخساسة بورودٍ من مطاط لا عطر فيها، ولافائدة للنحل منها
لقد كانت التفاهة بمثابة صرصور لا قيمة له في عالم الجد والرفعة والأنفة، ثم صارت فراشة تدخل حدائق القلوب بعد استباحتها الأبواب المغلقة، موهمة للناس أنها بالفعل فراشة، تريد نشر ثقافة الجمال وحب الطبيعة بعمقها الثمين.
سألني أحدهم: هل التفاهة مرض؟ قلت: إذا كان المسرح أباً للفنون، فالتفاهة أب وأم الضلالات لأنها تعزّز النكوص، وتفقد الناس الصواب الذي يجعلهم يحملون على عاتقهم نصرة الحق، وتحبيذ العدل، والالتزام بالقضايا المصيرية للشعوب والأمم.
التفاهة ترسم دوائر التغفيل، وتزيّن حقول الخساسة بورودٍ من مطاط لا عطر فيها، ولا فائدة للنحل منها. فيا من تقبض التفاهة على قلوبهم وأبصارهم استفيقوا قبل أن تجعلوا الثمين خسيساً والخسيس ثميناً، فيصير الأحياء أمواتاً، والأموات أحياء.