بين كِسرةِ الخبز وكَسرِ الملل
سعيد ناشيد
لماذا يميلُ معظم الناس إلى تغيير الأشياء التي يمتلكونها أو تُحيط بهم؟ ولماذا لا يستطيع معظم الناس مواصلة العيش من دون رؤية أيّ شيءٍ يتغيّر من حولهم؟
في كلّ الأحوال، ليست المصلحة هي الدّافع الوحيد إلى التّغيير، بل يكفي الملل أحيانًا لكي يطلبَ الناس التغيير أو يطالبوا به. فالمللُ هو المحرّك الأوّل للغالبيّة العظمى من الناس نحو تغيير المسكن، والأثاث، والسيارة، والعلاقات، والأمكنة، ثم وصولًا في الأخير إلى الرّغبةِ الخطرة في تغيير العالم!
ليس جوع الجياع وحده، لكن ملل الملولين أيضًا يُهدّد الأمن العام، بل الملل أشدّ وطأة في معظم الأحيان. ذلك أنّ الجائع يعرف ما يطلبُه أو يطالب به، لكن الملول قد لا يعرف ما الذي يطلبه أو يطالب به؟
ليس الجوع وحده من يدفع المستضعفين إلى التمرّد على النظام العام، في ما يُسمّى عادةً ثورة الجياع، بل قد يكون الملل دافعًا كافيًا إلى العصيان والتمرّد. إنّ ما يُعبّر عنه معظم الشباب الثائر بـ"انسداد الأفق"، ليس سوى صيغة سياسية للتّعبير عن الملل، وذلك عندما يضطرّ الإنسان إلى أن يُمارس الأشغال نفسها، أو يعيش العطالة نفسها، أو يقابل الوجوه نفسها، أو يُصغي إلى الكلماتِ نفسها، أو يمكث طويلًا تحت السقف نفسه، أو الأفق نفسه، أو الروتين نفسه.
الجائع يعرف ما يطلبُه أو يطالب به، لكن الملول قد لا يعرف ما الذي يطلبه أو يطالب به
لقد نجح البعض في استثمار ملل الروتين اليومي على وسائل التواصل الاجتماعي لأجل رفع نسبة المشاهدة وجني المال، لكن الوهم لا يطول، إذ سرعان ما يملّ المشاهدون من الروتين المتكرّر. وبهذا النحو يتساقط تجار التفاهة بسرعة، لكنهم حيث يتكاثرون، قد يصيرُ الأمر لعبةً خطرة.
ضمن الحاجيات الأساسيّة للإنسان لا توجد الحاجة إلى كِسرة الخبز وحدها، بل هناك الحاجة الماسة إلى كَسر الملل أيضاً. لذلك، فإنّ الحريّة في بعض الأحيان تغدو مجرّد تعبير نضالي عن الحاجة الوجودية إلى الخروجِ من دائرةِ الملل. ولن نجانب الصواب إذا اعتبرنا أنّ ضدّ الحريّة ليست العبودية بل الملل. وقد أمكننا أن نلاحظ في أثناء جائحة كورونا كيف أنّ الحكومات الغربية رغم قدرتها أحيانًا على توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين مقابل التزامهم الحجر الصحي في أوج الجائحة، إلا أنّها لم تقنعهم أمدًا طويلًا، فسرعان ما دفعهم الملل إلى العصيان والتمرّد، وذلك تحت شعار الحريّة أولًا وأخيرًا. ومن حسن حظِّ الجميع أنّ الجائحة لم تعمّر طويلًا.
إضافة إلى ذلك كلّه، فإنّنا لا نستبعد أن يكون العامل الأساسيّ لتراجع نسبة المشاركة في التصويت الانتخابي داخل معظم مجتمعاتِ العالم، هو الملل، حيث بدأ المواطنون يملّون من هامشِ التغيير الذي يتضاءل بعد كلِّ مناسبةٍ انتخابية، علمًا بأنّ تراجع نسبة التصويت هو الخطر الأكبر الذي يهدّد الديمقراطيات الحديثة، طالما يُتيح فرصة صعود أقليّاتٍ سياسيّةٍ راديكاليّةٍ منظّمةٍ لأجل اختبار فكرة جديدة، وجوه جديدة، أو حماقاتٍ جديدة.
تغدو الحريّة في بعض الأحيان مجرّد تعبير نضالي عن الحاجة الوجوديّة إلى الخروجِ من دائرة الملل
لذلك نفهم العبارة الرومانية الشهيرة "الخبز والألعاب"، التي صاغها الشاعر الهزلي الروماني جوفينال، بين أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الميلادي، لعله قالها على سبيل النقد والهجاء، إلا أنّها سرعان ما صارت برنامج معظم أباطرة الحضارة الرومانية، الذين قصدوا درء كلّ من فتنةِ الجوع وفتنة الملل على حدّ السواء.
وهكذا يمكنني القول على سبيل الاستنتاج: بين كِسرة الخبز وكَسر الملل تكمن قصة الكدح اليومي للكائن الإنساني: الكدح في سبيل درء الجوع، ودرء الملل أيضًا.
إنّها قصة كلّ واحد منّا في هذه الحياة العابرة، التي لا نتحمل أن نعيش فيها من دون أن يحدث شيء جديد كلّ يوم، أو على الأقل بين الفينةِ والأخرى!