بين واقعية الشاعر ووهم السياسي
مع أنّ كتاب "صديقي رضا لينين" للشاعر والأكاديمي التونسي فتحي النصري صدر منذ ثلاث سنوات، فإنه ما زال يكتسب راهنية في المشهد التونسي، وحتى العربي، بالنظر إلى الرسالة الأساسية التي يدافع عنها، وهي خُلاصة تجربة فكرية وأدبية وسياسية متنوّعة، ولعقود من السبعينيات إلى اليوم.
الكتاب محاولة لرسم بعض معالم سيرة للشاعر ولجيله، وإن كانت السيرة هنا تبدو لي ذريعة وقناة لإيصال خلاصتها للقارئ. من الأسباب المباشرة لإنجاز الكتاب بروز صديقه رضا لينين، أحد وجوه اليسار في المشهد السياسي في الجامعة التونسية بين السبعينيات والثمانينيات، باعتباره من مهندسي صعود الرئيس قيس سعيد حسب ما هو متداول.
وكما أشار الأستاذ، كمال الشيحاوي، في مقال له عن الكتاب، بأنّ اسم رضا لينين هو مجرّد قناع استعمله الشاعر، فتحي النصري، لسرد سيرته وسيرة جيله. فهو بتقديري ليس القناع الوحيد في الكتاب، حيث يبدو لي أنّ العمل مبني على عدّة ثنائيات وجه/ قفا، منها فتحي النصري/ رضا لينين، الماضي/ الحاضر، الشاعر/ السياسي، جيل السبعينيات/ أجيال ما بعد الاستقلال... وهي ثنائيات يمكن أن تكون مداخل لقراءة الكتاب ولتوظيفه في أكثر من سياق.
قرأت الكتاب في جلستين بلهفة ومتعة لأنّني أحبّ كتب السيرة الذاتية وأفضِّلها حتى على الروايات لأنّها تنضح بالحياة، حيث حرارة الأحداث والمشاعر ما زالت قائمة وتصل إلى قارئها مباشرة ودون إجهاد، وكأنّها حديث النفس للنفس. هي سيرة فتحي النصري وسيرة جيله، وهي أيضاً سيرة كثيرين مارسوا الفكر والسياسة منذ بداية دولة الاستقلال إلى اليوم، حيث تتقاطع حياتهم في عديد التفاصيل: الأصول الاجتماعية، العلاقة بالعائلة، أسئلة الدين والفكر والمجتمع والسياسة والأدب لمن هو مهتم بذلك، الحلم والوهم في فكرة تغيير العالم، الصداقات والخيبات التي يواجهها كلٌّ بطريقته.
وفي حالة الشاعر فتحي النصري يبدو الشعر هو المنقذ منها، وهو ما ليس هيِّنا لأنه الكائن الذي يمكن أن يقود إلى الحياة كما يمكن أن يقود إلى الهاوية، في حالات الهشاشة التي لا تُطاق. جاء الكتاب منساباً كنهر، بفعل العشرة الطويلة لصاحب "قالت اليابسة" مع الشعر والسرد واللغة. فالكتاب الصادر عن دار مسكليان، يبدو لي كتاباً نوعياً في تجربة الشاعر والأكاديمي فتحي النصري، وفي تجربة أجيال مرّت بالجامعة التونسية، لأسباب عديدة، منها:
(1): هو كتاب سيرة ذاتية، وهو الأوّل في هذا الجنس للكاتب الذي خبر الشعر والسرد، كتابةً ونقداً. ولا شك أنّ هذه الخبرة كان لها أثرها في هذا العمل، حيث المراوحة بين السرد والشعر، وبين الذاتي والجماعي والفكري والسياسي، ما يقطع مع الرتابة ويزرع اللهفة لإتمامه في جلسة واحدة. وهو كتاب من شأنه أن يكشف أبعاداً غير مألوفة في التجربة الشعرية لفتحي النصري الذي يعتبره البعض من شعراء مدرسة القيروان التي تمتح من لغة صوفية شفافة، على غير علاقة كبيرة بالواقع، وهو ما يفنده، ولو جزئياً هذا العمل الذي يكشف عن علاقة عميقة لشعر النصري بالواقع، لكن بخيط لا يُرى إلا بعينيْ قارئ يمامي (نسبة لزرقاء اليمامة). فهو مكتوب بحبر سرّي لا يفك شيفرته الا الخواص، والكتاب هنا هو أحد المفاتيح الجديدة لقراءة أشعار صاحب" أصوات المنزل".
الشاعر، والذي من المفروض أن يكون حالماً لا يرى إلا المستقبل، هو أكثر عقلانية وواقعية وعمقاً من أصدقائه السياسيين
(2): هو كتاب نوعي لأنه يكشف، لمن لا يعرف، عن جانب آخر من شخصية الأستاذ فتحي النصري. شخصية المثقف الذي انخرط في العمل الفكري والنقابي والسياسي مبكراً، حيث بدأ شاباً متديناً، ثم أصبح ماركسياً من تيار الوطنيين الديمقراطيين بالجامعة إلى عضو في الحزب الشيوعي التونسي، إلى نقابي في قطاع التعليم الثانوي، وقد ساهم بفعالية في مختلف هذه المراحل.
تعدُّد هذه التجارب وتراكمها جعل رؤاه الفكرية والسياسية ناضجة وواعية إلى حدّ بعيد. فهو لا يبدو إطلاقيا ولا إقصائيا في مواقفه، بل يجنح إلى التنسيب والواقعية. فهو مؤمن بتاريخية الآراء والمواقف، لأنها بنت زمنها ورهينة شروطه، فهو يقول: "نحن لا نكون ثوريين أو إصلاحيين بالرغبة، ولكن الشروط التاريخية تحدّد الكائن والممكن، وبهما يتحدّد الفعل السياسي". وهنا المفارقة، حيث فتحي النصري الشاعر، والذي من المفروض أن يكون حالماً لا يرى إلا المستقبل، هو أكثر عقلانية وواقعية وعمقاً من أصدقائه السياسيين الذين تمسّكوا بتصوّرات نظرية لا علاقة لها بالواقع المتحرّك لتتحوّل إلى مجرّد أوهام. وما هو خطير، أنّها مازالت تتحكّم في الراهن بشكل أو بآخر، حيث كلّ مجموعة متمترسة وراء هذه النظريات، ولا ترى إلا نفسها من يمتلك الحقيقة المطلقة والحل لكلّ مشكلات المجتمع.
(3): هو كتاب نوعي لأنه يحكي سيرة جيل الشاعر فتحي النصري، جيل السبعينيات في الجامعة التونسية، حيث السياسة كانت الاهتمام الاساسي للشباب مع تنامي المعارضة للنظام القائم والرغبة في التغيير، خاصة مع صعود تيارات اليسار الراديكالي. وهي أيضاً، سيرة الأجيال اللاحقة التي وقعت في نفس المآزق وكرّرت نفس الأخطاء، وهو ما جعله يشعر بالأسف لذلك، معبّرا بقوله: "لطالما أمضّني أن أرى أجيالاً لاحقة تنسج على المنوال نفسه وتكرّر التاريخ". وهو أمر صحيح عاينته شخصياً في الثمانينيات في الجامعة التونسية، حيث كلّ طرف سياسي كان متحصناً بأيديولوجيته لتصبح الأيديولوجيا هدفاً للتجسيد لا وسيلة للنهوض بالمجتمع والارتقاء به على جميع المستويات.
الأيديولوجيا والدوائر الضيّقة هي التي تحكم المواقف والعلاقة بالآخرين بمعزل عن مصلحة البلاد والعباد ومنطق الأشياء
(4): هو كتاب له أهميته لأنّه بقدر ما يتحدث عن التاريخ والماضي، فإنّ رسائله الأساسية هي إلى الراهن. والراهن السياسي تحديداً.
وفي ختام الكتاب يكشف الأستاذ، فتحي النصري، عن مراده بقوله: "بعد الرابع عشر من جانفي (يناير) أصبحت الفرصة سانحة لكتابة تاريخ آخر بنظرة أخرى إلى تونس. ولعل أوان الخروج من الدائرة قد آن. وقد تكون هذه نكتة الحكاية التي حجبتها الرواية". فالسيرة الذاتية تبدو مجرّد قناع أمام الفكرة الأساسية، وهي فكرة الخروج من الدائرة لبناء وطن للجميع، وأهمها دائرة الأيديولوجيا التي سيطرت تقريباً على كلّ أجيال ما بعد الاستقلال بمختلف انتماءاتها الفكرية والسياسية. وهي الدائرة التي حجبت الرؤية عن الكثيرين وجعلت كلّ المعارك معارك من أجل الأيديولوجيا وليس من أجل البلد والشعب. معارك من أجل وجود الأنا ونفي الآخر وإقصائه من المشهد في حين أنّ البلاد والحياة تتسع للجميع. فدخلت البلاد على مدى عقود في صراعات بلا معنى، أضاعت الوقت على الجميع ولم تنتج شيئاً، وهو ما عطّل حركة التطوّر والتقدّم في البلاد. وللأسف فإنّ هذا الأمر بصدد التكرّر منذ الثورة إلى الآن حيث الأيديولوجيا والدوائر الضيّقة هي التي تحكم المواقف والعلاقة بالآخرين بمعزل عن مصلحة البلاد والعباد ومنطق الأشياء، ليصبح السياسي المدافع عن أيديولوجيا شهدت ما شهدت من التحوّلات، راعياً للوهم، هو المدعو أصلا ليكون ضد الوهم، مؤصلاً لمواقفه ومقارباته في الواقع والتاريخ. وهو ما جعل البلاد في حالة تدحرج مستمر على جميع المستويات، التدحرج الذي لا نعرف مداه ومتى نهايته. فهو يرى أنّ "على الأحزاب السياسية الفاعلة الآن أن تكفر عن أخطائها وتتحلّى بنكران الذات وأن تتجاوز منطق السجال والتجاذب السياسي، فلا غالب ولا مغلوب اليوم".
فهل من منصت إلى هذه الدعوة من مثقف وشاعر له موقع مهم في المشهد الثقافي والأكاديمي؟ وهل من مُعتَبِر من سيرة "الجيل المعطوب" الذي تحدّث عنه الأستاذ فتحي النصري في هذا الكتاب؟