تأملات في "أغنية لا تهدأ أبداً"
(1)
الكتاب هو أشبه بتلك الحصاة التي تُلقى في ماء راكد، حيث تتناسل دوائر الماء تباعاً. أو قل هو الضّوء يُلقى في مكان معتم، حيث الموجات تَكشف كلّ ما كان خافياً. كلّ كتاب تمسكه يحرّك فيك أشياء ما، يعيد المشاهد والأسماء، يُذكِّرك ويُنسيك في آن واحد، يدفعك إلى التفكير والكتابة، كتابة نص على نص. الكتاب هو عنوان شَغَبٍ للذّات القارئة، هو عملية تحريك لا تهدأ، للعقل والهرمونات، وكلّ ما فيه قابلية للتحرك في الإنسان.
(2)
"أغنية لا تهدأ أبدا" كتاب شعري جديد للشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة، هو صياغة نهائية لنصوص البدايات بتعبير أدونيس. أدونيس الذي عدَّد الصياغات أولى، ثانية،... نهائية في عدد من أعماله الأولى (أغاني مهيار الدمشقي مثلا). وهو أيضا حصيلة عملية تنقية صارمة، كما ذكر الشاعر في المقدمة، لمحو طفيليات الشّعر، وفق رؤيته، لترك الحقل، حقل أشعار البدايات دون شوائب.
العمل مشروع حتماً ومستحبّ أيضاً، خاصة وقد هدأت فورة البدايات، وتوازنت هرمونات الشعر لدى الشاعر. وكما ذكر محمود درويش في أحد حواراته، فإنّ الشاعر عموماً لا يُولد دفعة واحدة بل على دفعات، وهو قول يعكس البعد التطوّري في أيّ تجربة شعرية، وبالتالي فإنّ التفاوت في مستوى الشعرية بين البدايات والكتابات المتأخرة أمر طبيعي، مع أنه يدفع أحياناً بعض الشعراء إلى مراجعة بداياتهم كما فعل عبد الفتاح بن حمودة في هذا الكتاب. افتتح الشاعر كتابه بمقدمة مهمّة، وهي تمثل عتبة كبرى وسنداً أساسياً لقراءة المتن الشعري ووضعه في سياقه، بالنظر إلى ما حوته من معالم رؤية شعرية، وما أشارت إليه من أسماء لشعراء وتجارب شعرية عربية وعالمية، من السوريالية والرمزية إلى تجارب عربية مثل تجربة "إضاءة 77" المصرية مع حلمي سالم ورفعت سلام، إلى تجربة "الغارة الشعرية" في المغرب مع الأخوين طه عدنان وياسين عدنان وسعد سرحان ورشيد نيني وغيرهم. وهي تجارب تجمع بينها النزعة الانشقاقية عن السائد بنوع من القطيعة، ورغبة في الخروج على النسق الشعري المألوف. وجلّ الأسماء المذكورة ذات مناخات شعرية في نفس هذا السياق، وإن كانت بدرجات مختلفة.
الكتاب هو عنوان شَغَبٍ للذّات القارئة، هو عملية تحريك لا تهدأ، للعقل والهرمونات، وكلّ ما فيه قابلية للتحرك في الإنسان
كما يعترف الشاعر بالتأثير الواضح لأسماء شعرية غربية كثيرة من آرثور رامبو وبول فاليري، إلى لوران غاسبار، مروراً بوايتمان وكافافيس وريتسوس وغيرهم. ومن الأسماء العربية يذكر الشاعر: محمد الماغوط وأنسي الحاج وسركون بولص ووديع سعادة وآخرين. كلّ هذه المعطيات، تمثل مدخلاً مهمّا لقراءة الصياغة الجديدة لنصوص البدايات، وهي التي تمثل حصيلة تفاعل الذات الشاعرة مع كلّ هذه الروافد والتجارب التي كان لها تأثير ما في نحت التجربة الشعرية لعبد الفتاح بن حمودة.
المقدمة تجمع بين التاريخ والنقد. في التاريخ عرض الشاعر تجربته في الكتابة، وخاصة كتابة البدايات، محقّباً إياها إلى أربع فترات، عارضاً بعض خصوصيات كلّ فترة، كما عرض تجربة النشر في الصحف والمجلات ولَدَى دور النّشر وسلسلة أعماله الأولى، التي هي موضوع المراجعة، وإعادة الصياغة، ومنهما مجموعتا "الصّباحات" و"آنية الزهر"، اللّتان وقع حذفهما نهائيّا من هذا الكتاب، إضافة إلى بقية الأعمال الشعرية مع ذكر تاريخ الكتابة والنشر. (ما زلت أذكر حركية الشاعر نهاية التسعينيات، وخاصة في صحيفتي الزمان والقدس العربي وبشكل متواصل لمدة طويلة، عندما كنا نتلهف لشراء هذه الجرائد التي كانت تأتي بأعداد محدودة، والبحث عنها من كشك إلى آخر)، وهي حركية شاعر صاحب رؤية يناضل من أجلها، وجعلها مشروع حياته الإبداعية. تتجلّى هذه الرؤية في الجانب النقدي من المقدمة، والتي يعكسها انتصاره لقصيدة النثر، وذلك بتحديد بعض خصائصها المعروفة، وبناء مراجعته للنصوص الأولى على أساسها، وأيضا باختيارها أسلوباً وحيداً لكتاباته الشعرية منذ البداية إلى اليوم، بحيث يمكن القول بأنها تمثل إيديولوجيته الشعرية التي لم يكتف بالكتابة فيها، بل بالدعوة إليها والتنظير لها أيضا، ضمن السياق التونسي، وذلك بمساهمته في تأسيس "حركة نص" كتجمع لشعراء يكتبون ضمن هذه الرؤية، على غرار ما ذكرنا سابقاً من حركات مشابهة في المغرب ومصر، وهي الحركة التي أصدرت مجلدين تحت هذه اللافتة.
ومن علامات النقد في هذه المقدمة أيضا، عرض الشاعر لبعض مبرّرات مراجعة النصوص الأولى كمسألة الإيقاع في كتابة قصيدة النثر، مؤكداً قسوته مع منجزه لأنّ همه الوحيد هو الشعر في أرقى تجلياته، ولو كلفه حذف الجزء الأكبر من أعماله. والحقيقة أن مثل هذه المقدمات ليست كثيرة لدى شعرائنا باعتبار فكرة إعادة صياغة ومراجعة البدايات ليست دارجة، وقد يكون في ذلك نوع من اختيار لدى البعض، وهو أمر يمكن أن يُقارب من زوايا متعدّدة ويمكن أن تكون معه أو ضده، ولكن فعله يعكس نوعاً من الجرأة لمواجهة الشاعر لشعره وعلى الملأ، والقول إنّ هذا من الشعر وهذا لا، ولهذا السبب أو ذاك، وهو ما يحسب لعبد الفتاح بن حمودة في هذا العمل.
(3)
بعد المقدمة/السند للديوان يمكن القول، إنّ دائرة قراءته من الناحية التقنية واضحة إلى حدّ ما، فهي تضعنا في إطار قصيدة النثر، ما يعني أنّ تناولاً عميقاً للنصوص يكون على أساس خصوصيات هذه القصيدة وطرقها في اجتراح الجمال ومتعة القراءة. عمل كهذا يتجاوز قراءة عاشقة وحرّة للشعر، تحاول أن تنصت بأكثر ما يمكن من الصمت لالتقاط أصوات قد تكون مدخلاً لاكتشاف هدير خفيّ.
ثلاث أفكار أساسية بدت لي في هذه الأغنية التي لا تهدأ أبداً.
أولاً، إنّ الشعر هنا صدى حوارات مع كائنات الكون، الشمس والنجوم والظلال، الأرض والبحر، العصافير والطيور، الماء والمطر وغيرها. يبدو المعجم مرتبطاً بالطبيعة، وهو ما قد يقود إلى الاعتقاد بأننا إزاء نصوص رومانطيقية كلاسيكية. لكن الأمر ليس كذلك، لأنّ الحوارات أو ما يبدو لنا من حوارات يفتح مجالاً واسعاً للتأويل حول ماهية هذه الكائنات. فهل يتعلق الأمر بالكائنات المذكورة بالمعنى الذي نعرفه؟ وفي هذه الحالة، قد يُعبّر الشّعر في جزء منه عن حالة غربة، وأزمة توازن وتواصل مع الواقع بكلّ ما فيه، وهو تعبير عن رفض لهذا الواقع ورغبة في تغييره وإعادة بنائه، أم أنّ هذه الأسماء إشارات إلى أناس في دائرة الشاعر والمجتمع: نساء ورجال، صغار وكبار، أصدقاء وأعداء... وهم يتقلبون من اسم الى آخر في تعبير عن تقلبات الذات الإنسانية من حال إلى آخر. وقد يجتمع التأويلان معاً في أكثر من نص في الكتاب.
هم الشاعر الوحيد هو الشعر في أرقى تجلياته، ولو كلفه حذف الجزء الأكبر من أعماله
ثانياً، إنّ الشعر هنا يبدو محاولة لإعادة ترتيب بيت الكون بكلّ ما فيه: الأدوار والمهمات، العلائق بين الكائنات، مراتبها، إعادة اعتبار هنا، هبوط هناك، ... فهو شبيه بعملية إصلاحية بمنطق السياسة، وأحيانا يكون الإصلاح المنشود قوياً ومفاجئاً للقارئ إلى حدّ يمكننا اعتباره محاولة لإعادة خلق العالم وتشييد عالم جديد، من خلال تركيب الموجود على أسس مغايرة. فالشاعر هنا يفكّك العالم الى قطع كأنها قطع "بازل"، ثم يعمل لاحقاً على إعادة تركيبها وفق رؤيته، رؤية الشاعر بوصفه كائناً عنيداً غير محايد ولا مجامل، هو الناقد الأكبر والحالم بلا حدود. طبعا "البازل" معقّد وعصي على إعادة التركيب، فهو يحتاج الدربة، والنجاح حيناً والفشل أحياناً، والتحايل أحيانا أخرى، وهو ما يجعل الصورة كاملة في جانب وناقصة في جانب آخر، وقد تشعرك بالفوضى، لكنها هنا الفوضى الخلاقة حقا، للجمال ولذة القراءة، ولمتذوقي قصيدة النثر تحديداً.
ثالثا، حديثنا عن "البازل" في نظر الشاعر إلى الواقع والوجود يحمل معنى الجزئي والكلي، فالأجزاء يمكن أن لا تكون شيئاً إن لم تكن ضمن "البازل" في كليته وهو ما يعطيها معنى. كذلك الأمر مع النصوص والكتاب، يبدو لي أنّ الأجدى هو النظر والتفاعل معها في كليتها، وفي تقديري هي طبيعة قصيدة النثر التي يجب أن تُقرأ ككتلة كاملة ليكتمل المشهد وتكون ذات معنى ما. ففي الشعر التفعيلي كلّ سطر وبيت يمكن أن يكون حكمة وله معنى مفرد ويُقرأ مستقلاّ، وهو ما لا ينطبق في غالب الأحيان على نصوص قصيدة النثر. يبدو لي أنّ عمل الشاعر، عبد الفتاح بن حمودة، يؤكد هذه الرؤية في مقاربة المجموعة لتلمّس جماليات المبنى والمعنى، وإن كان الأمر ليس هيّنا، وهي الصعوبة التي تعيد إلى الأذهان سؤال الغموض في قصيدة النثر، مع أنّ الغموض ليس نقيصة بالضرورة كما قال نيتشه في كتابه "العلم المرح"، فـ"نحن لا نريد فقط أن يتمّ فهمنا عندما نكتب، بل وبكل تأكيد أن لا نُفهم أيضا. ولا يمكن أن نعتبر ذلك نقيصة في الكتاب إطلاقاً إذا ما وجده هذا أو هذا أو ذاك غير مفهوم: فلربما يكون ذلك عن نية وقصد من كاتبه، أي أنه لم يرد أن يكون مفهوماً من طرف الجميع وأي أحد. فكل عقل وذوق راق ينتقي من يريده أن يقاسم أفكاره، ومستمعيه أيضاً؛ وفيما هو ينتقيهم يضع حواجزَ أمام الآخرين".