تعييش صدام حسين في سورية بالخطأ
أساطير بعثية (7)
بمجرد ما فتحت الخط، رداً على اتصال صديقي أبو سعيد بالواتس أب، سمعت صوت ضحكته. سألته عما إذا كان معه أحد، فقال:
- لا، ولكنني، كلما مر أمامي تصرف بعثي أحمق، أضحك، وأتساءل: كيف وصل هؤلاء الناس إلى الحكم؟ وكيف استطاعوا أن يحكمونا طوال تلك السنين؟
- معك حق. ولعلمك، إن وصولهم إلى الحكم في سورية كان مضحكاً بحد ذاته، فعلى غرار أحداث رواية غابريال غارسيا ماركيز، قصة موت معلن، ملأت البلادَ السورية، في مطلع سنة 1963، إشاعةٌ غريبة، مفادُها أن الضابط "زياد الحريري" سيقوم بانقلاب عسكري، يُنهي به الحكم (الانفصالي) الذي جاء على أنقاض الوحدة مع مصر، ويعيد مجد الجمهورية العربية المتحدة، بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر..
- هذه أول مرة أسمع بانقلاب عسكري يحدث علناً.
- وأنا مثلك، ولكن، هذا الذي حصل، حتى إن المواطن السوري، حينما كان يلتقي بأحد معارفه في تلك الأيام، يسأله:
- شو؟ زياد الحريري عمل انقلاب ولا لسه؟
وفي 8 آذار / مارس 1963، نفذ زياد الحريري، مع ضباط آخرين، انقلابه بالفعل، وسرعان ما استولى البعثيون على الحكم، بعيداً عن عبد الناصر، والوحدة العربية، وعينوا زياد الحريري وزيراً للدفاع، وقائداً لأركان الجيش، واستمر في منصبيه كليهما حتى جرده منهما صلاح جديد، إثر انقلاب بعثي داخلي، يوم 23 شباط / فبراير 1966.
- ما يحيرني هو السؤال: كيف حكموا البلاد بعدما استولوا على السلطة؟
- الوصف الدقيق للرفاق البعثيين، كما تعلم يا أبو سعيد، أنهم جماعة شعارات، وخطابات إنشائية، و"حكي فاضي"، وليسوا أهل حكم وسياسة، وأقصى ما كانوا يعرفونه، في هذا الميدان، أن حزبهم قائدُ الجماهير العربية الكادحة! وبالمناسبة: كلمة الجمهور، التي يجمعونها على (جماهير)، بحد ذاتها مبهمة، يجتمع تحتها مَن هب ودب من أبناء الشعب، ولكي يزيدها الرفاق غموضاً، أضافوا إليها صفة "العربية"، باعتبار أن حزبهم، كما كانوا يتوهمون، قومي، عروبي، سيوحد الأمة العربية من المحيط الهادر (إلى الخليج الثائر)، وهذه الفقرة الأخيرة، جاءت بسبب القافية، فالخليج العربي لم يكن ثائراً في أي وقت من الأوقات.. وأما صفة "الكادحة"، فيسوغها الرفاق بأن حزبهم نصير العمال، والفلاحين، والحرفيين، وصغار الكسبة، الذين يحصّلون قوت عيالهم بالعمل، والكدح..
- نعم نعم. صحيح.
- وبقدر ما كان الرفاق البعثيون يكثرون من الشعارات الرنانة، والخطابات الطنانة، والوعود الفلتانة، بقدر ما كانوا قليلي السعي، والعمل، والإنجاز، حتى إن الأهالي، كانوا يقولون للشخص الفاشل: والله أنت بتقاقي وما بتبيض، متل البعثيين! هل تعرف نكتة الرجل القروي المسنّ، أبو مرعي، مع شباب قريته البعثيين؟
- لا والله. أسمعني إياها.
- أبو مرعي من قرية جبلية اسمها "البلاطة"، يمتاز أهلها بخفة الدم، والتعليقات اللاذعة. وذات مرة، في مثل هذه الأيام من فصل الربيع، والغيوم تفسح مجالاً للشمس، لتطل على الناس، وترسل دفأها إلى الأرض المبللة بوحول الشتاء، خرج أبو مرعي إلى بيدر القرية، ليتنعم بالأجواء الدافئة، ويستنشق هواء نظيفاً، ويمارس هوايته في تدخين السجائر "القَشَقْ"، يدرجها بأصابعه، ثم يقصقص أطرافها بشفتيه وأسنانه.. وكان بجواره، على البيدر، فتية منتسبون حديثاً لحزب البعث، ويبدو أنهم كانوا عائدين لتوهم من اجتماع بعثي في مركز الناحية، بدليل أنهم كانوا يرددون العبارات الخطابية التي يكثر البعثيون من ترديدها في الاجتماعات، كقولهم:
- سنحرر فلسطين من رجز الصهاينة.
- سنحرر الجولان، وسنحرر الضفة الغربية، والقطاع.
- لا تنسوا سيناء، سنحررها ونعيدها لأهلها في مصر الشقيقة.
- سوف نحرر كل شبر من تراب أرضنا الطاهر، وسوف نرويها بدماء الشهداء.
إلى أن قال أحدهم: وسنحرر لواء إسكندرون..
فانتفض العم أبو أيوب وقال لهم: يا عمو، أنتم حرروا المناطق التي ذكرتموها، واتركوا لي لواء إسكندرون، أنا أحرره!
ومن طبائع البعثيين، يا أبو سعيد، أنهم يهدرون وقتهم، وأوقات الناس في المسيرات الجماهيرية. مليارات الساعات من حياة السوريين أهدرت في المسيرات التي كان عمي أبو حمداوي يصفها بأنها (ركض وغبرة وقلة قيمة).
- لحظة أبو مرداس. أنا عندي سؤال. من أين جاء البعثيون بفكرة المسيرات؟
- لا أدري بالضبط، يقال إن حافظ الأسد أمر بها بعدما زار كوريا الشمالية. ولكن، عموماً، أنا أرى أن المسيرات تستند إلى مبدأ سيئ للغاية، ملخصه أن الفرد في مجتمعاتنا العربية لا قيمة له، على عكس المجتمعات المتقدمة التي قامت حضارتُها على احترام الفرد، وحقوقه، قبل النظر في حقوق الجماعة. أنظمتنا الشمولية البائسة تنظر إلى الفرد (المواطن) على أنه ذرة صغيرة في بحر الجماهير المتلاطم، ولذلك ظهرت في مصر، أيام عبد الناصر، أغنيات تشيد بالجماهير، مثل: المعارك مستمرة، يا جماهيرنا يا حرة، ويا جمال يا حبيب الملايين، ثم طور إعلامُ معمر القذافي الديباجة، فأنتج أغنية تبدأ بالسؤال: وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟
قال أبو سعيد: إذا أعطيتني فرصة، أحدثك عن حادثة جرت أمامي، وصارت بعد ذلك شهيرة جداً.
- تفضل.
- أخرجونا، ذات يوم، من أماكن عملنا، وطلبوا منا الاشتراك في مسيرة ذات طبيعة مزدوجة، تعييش حافظ الأسد، وتسقيط صدام حسين الذي كان في حالة عداء قوية مع الأسد. لم نعرف يومها ما جرى لزميلنا "أبو قرمو"، فبينما كان يسير بيننا، نحن المجبرين على المسير، إذ دقه الحماس فجأة، وقال لأبو طميش: طَخّي. أناخ أبو طميش بجسده إلى الأسفل، مثل الجمل عندما يبرك، وتعربش أبو قرمو على كتفيه، وصار يصيح: يعيش الرئيس صدام حسين، يسقط حافظ الأسد. وفجأة صار يضرب بقدميه على صدر أبو طميش ويقول له (نَزّلني، غلطت!). هذه العبارة الغريبة، المضحكة، تحولت بيننا إلى نكتة، وبالأخص حينما نلعب بالطرنيب، فكلما لعب أحدنا لعبة خاطئة كان يقول لنا: نزلوني غلطت!