تغريبة الشاب خالد
الوطن 1992
بينما تتقطع أوصال المجتمع الجزائري بمناشير الانقسامات السياسية وأخبار الانفجارات والإرهاب والركود الاقتصادي المخيف، المنبئ بشتاء مظلم طويل الأمد للانهيار الاقتصادي، والمعلن عن عزلة دولية.
صرّح الكثير من المهاجرين لذويهم والمقربين منهم عند زياراتهم الخفيفة للوطن، أنهم صاروا يخشون إشهار جنسيتهم الأصلية في البلدان التي يقيمون فيها في تلك الفترة، مخافة تعرضهم للتهمة والعزل.
وفجأة انتشر خبر انفجار مشابه لأخبار الانفجارات الأخرى من حيث الصيت والصدمة التي تخلّفها أخبار الانفجارات عادة، ولكنها تكون سوداوية ومُرَّةً ومزعجة، ومعلنة عن الموت والحزن والألم والخوف والفوضى، وتصاحبها رياح الإحباط والخزي وعار الهمجية التي تلتصق بالمجتمعات التي تكثر فيها. أما هذا الانفجار فقد كان لذيذاً وخبراً مفرحاً ومعلناً عن بهجة الحياة، ويصاحبه شعور بالفخر.
كل الانفجارات الأخرى المقيتة حدثت في مواقع كلها داخل الجزائر وبين الأبرياء الذين حولتهم إلى ذكرى حزينة لأحبتهم بعد أن كانوا بينهم يشاركونهم في صنع الذكريات السعيدة. أما هذا الانفجار فقد خُطِّطَ له في فرنسا، وفُجِّرَ في الولايات المتحدة الأميركية، وامتد أثره في العالم، والذي فجّره هو شاب جزائري من غرب البلاد، مشهور فيها بتمرده على الأعراف منذ فترة السبعينيات، يُنادى بـ"الشاب خالد"، أما القنبلة التي فجرها فهي أغنية اخترعها وسمَّاها "ديدي".
ذلك التفجير الذي صنع منه ظاهرة عالمية، حولته إلى مادة بحث عنه وعن موسيقاه وعن معنى كلماته. وإن كانت كلمة "دي دي" على رأس تلك الكلمات البحثية عالمياً وعربياً وحتى وطنياً، ترك العالم في حيرة من أمره لأنه لم يسمع من قبل عن الرجل، فضلاً عن موسيقاه، إذ باعت أغنيته المنفردة "دي دي" أكثر من مليون نسخة في العالم، وجعلته أكثر شعبية من مايكل جاكسون في الهند. وغزت وحققت نجاحاً كبيراً في 49 دولة.
باعت أغنية الشاب المنفردة "دي دي" أكثر من مليون نسخة في العالم، وجعلته أكثر شعبية من مايكل جاكسون في الهند
أما في فرنسا فقد غزت الأغنية إذاعات فرنسا وقنواتها المرئية، حيث كان تشغيل أسطوانة باللغة العربية في الإذاعة الفرنسية لا يزال جريمة جنائية تقريباً. والمفارقة الكبيرة أنها من إنتاج يهودي أميركي، ومن عزف الموسيقيين الأميركيين السود، ومن غناء عربي بلغته العربية. وبلغت أغنية "دي دي" وظلت في المرتبة الأولى "لأفضل 50 أغنية" لمدة 20 أسبوعاً، مما يجعلها أول نغمة تغنى باللغة العربية تتصدر المراتب في فرنسا.
وبالعودة إلى ذكر انتشار الأغنية في الهند، وهنا أتحدث باختصار عن فيلم هندي احتل قطعة من ذاكرة الجزائريين اشتهر بينهم باسم "جانيتو"، حتى إن بعض المصادر تذكر أن الفيلم يحظى بمكانة غير عادية في الجزائر منذ صدوره.
لا يزال تأثيره مستمراً لأربعة عقود منذ إصدار الفيلم. الفيلم هناك يسمى جانيتو. "وفي الحقيقة فالعنوان الأصلي هو "Aa Gale Lag Jaa - تعال، احتضنّي"، وهو فيلم رومانسي هندي عام 1973.
وبعد العقود الثلاثة لذلك الاحتلال، يسجل الشاب خالد احتلالاً ثقافياً في ذاكرة الشعب الهندي مشابهاً لاحتلالهم الثقافي لذاكرة الجزائريين بأغنيتهم جانيتو، وذلك عن طريق أغنيته العالمية "دي دي"، وبذلك وفي قانون الحروب الناعمة الثقافية فقد رُدَّ الاعتبار إلى الجزائريين في الحرب الثقافية أمام الهنود وأمام الفرنسيين عن طريق ملك أغنية تنتمي لنمط "الراي" ويسمّى صاحبها "خالد بن حاج ابراهيم"، وبهذا الرد يمكن أن يُقَال: "إن كان للأميركيين بوبي فيشر فإن للجزائريين خالد حاج ابراهيم" مع مراعاة اختلاف الحرفة طبعاً.
أما المواطن الجزائري فإن اجتهد في التعريف بجنسيته ولم يعرفها المخاطَب، فيكفيه أن يقول إنه من بلد الشاب خالد، فيعرفه الجميع، ويتحول النقاش إلى معنى كلمة "دي دي".
أما إجراءات الحكومة الجزائرية - وأنا أتكلم هنا عن المسؤولين عن الثقافة داخل الحكومة - في ما يخص هذه الشهرة العالمية لأحد مواطني الدولة، فلم تحرك ساكناً - كالعادة - وكيف تتعامل مع مواطن من مواطنيها لم تعترف باحترافه لـ20 سنة حين كان يشق طريقه داخل تراب الوطن؟ والمفارقة أنها كانت تراه متمرداً على أعراف ثقافتها الرسمية، حتى إنها أغلقت الباب أمامه بينه وبين الوصول إلى الجمهور الجزائري عن طريق الإذاعة والتلفزيون، وكانت ترى أن ما يقدّمه يخدش الحياء العام، ويؤثر سلباً على أفكار الشباب والأطفال، ومن المفارقات أنها كانت تعرض أفلام الهبيين وأصحاب الثقافة المضادة من الأميركيين والأوروبيين وحتى العرب من أمثال الهبيين المصريين!