تقبُّل الخسارة
سعيد ناشيد
نحتاج إلى الشجاعة لكي ننتصر في معارك الحياة، لكنّنا نحتاج إلى كثيرٍ من الشجاعة لكي نتقبّل الخسارة حين لا يكون منها بدّ. غير أنّ معظم معاركنا في الحياة نخسرها بسبب عدم الاستعداد لتقبُّل الخسارات التي هي جزء من صيرورة الحياة.
هنا يكمن المعنى الحقيقي للشجاعة، شجاعة تقبُّل الخسارة، ما يعني تقبّل الإفلاس، الفشل، الفقدان، الفراق، الألم، الملل، المرض، الموت... إلخ، وفي النهاية العيش بكلّ شجاعة.
لا يمكن للإنسان أن ينمو ويرتقي ويتعلّم إذا لم يخسر مرارًا، وإذا لم يتقبّل خساراته في كلّ مرّة. فلا يخلو أيّ إنجاز من خسارات متوّقعة، كما لا تخلو أيّة خسارة من بوادرِ إنجازٍ ممكن.
تلك القاعدة تصدُق على كلّ الأفراد، كما تصدُق على المجتمعات كلّها، بل تصدُق على الحضارةِ الإنسانيةِ برمتها.
لا يمكن للإنسان أن ينمو ويرتقي ويتعلّم إذا لم يخسر مراراً، وإذا لم يتقبّل خساراته في كلّ مرّة
بفعل تطوّر الطب والبيولوجيا وأسلوب الحياة، يعيش الإنسان الحديث عمرًا أطول، داخل مجال آمن، كما يمتلك معرفة أكبر، وإمكانيات أعظم، غير أنّ الكثير من قدراته قد تدهورت بهذا القدر أو ذاك:
بنى الإنسان الكوخ واكتشف الزراعة، لكن قدرته على تسلّق الأشجار تدهورت. اخترع الكتابة والتدوين ثم الطباعة، وفي المقابل تراجعت قدرته على الحفظ. اخترع الحاسبات المتطوّرة غير أنّ قدرته على الحساب الذهني آخذة في التراجع، كما أنّ تطور الذكاء الاصطناعي قد يجعل الإنسان يخسر جزءًا من قدرته على تحليل المعطيات، وتنظيم المعلومات. ومن يدري؟ فقد لا يبقى له في النهاية إلا الخيال بكلّ شعبه: الخيال العلمي، الخيال الأدبي، الخيال السياسي... إلخ.
كلّ مراحل التطوّر الإنساني مخيفة بسبب سهولة توقع الخسائر التي قد تمضي، وصعوبة توقع المكاسب التي قد تأتي. إنّنا في كلّ لحظة من لحظات العمر نعرف الوجوه التي تموت، ولذلك ننعى الماضي، لكنّنا لا نعرف الوجوه التي تولد، ولذلك لا نستبشر بالمستقبل.
كلّ مراحل التطوّر الإنساني مخيفة بسبب سهولة توقّع الخسائر التي قد تمضي، وصعوبة توقّع المكاسب التي قد تأتي
بدورها حياة الفرد لا وجود فيها لمكاسب بلا خسائر. الوظيفة مكسب للاستقرار المالي وخسارة للحرية، الزواج مكسب للاستقرار العاطفي وخسارة للحرية، التقاعد مكسب للحرية وخسارة لمناخ العمل... إلخ. ثم إنّنا مع امتلاك العلم نخسر القدرة على الكلام بيقين، ومع امتلاك المعرفة نصبح عاجزين عن تأكيد أيّ شيء، ذلك أنّ كلّ نوع من المكاسب يحمل نوعًا من الخسائر.
لذلك، فإنّ المعنى الحقيقي للنجاح في الحياة هو القدرة على تقبّل كلّ خسارات الحياة. فمن لا يتقبّل خسارة أيّ شيء يفشل في كلّ شيء:
من لا يتقبّل الغربة في موطن الهجرة يفشل ثم ينكمش خائبًا، من لا يتقبّل "مهانة" تلقي الملاحظات لن يتعلّم وسيفشل في النهاية، من لا يتقبّل أداء الثمن لن يحصل على البضاعة.
خساراتك هي سلّم ارتقائك.
عدم تقبّل الخسارة، أو إلقاء الّلوم على نوع من "الأرواح الشريرة"، كما تفعل مختلف التفسيرات السحرية للظواهر، يحرم الإنسان من فهم الأسباب والحدّ من الخسائر، بل يجهض فرصة استثمار الخسارة لمزيد من النمو، كما هو مطلوب. ذلك أنّ مراحل النمو ليست سوى خسارات نتقبّلها، ثم نحسن تأويلها، ومن ثم نستثمرها لمزيدٍ من الارتقاء.
مراحل النمو ليست سوى خسارات نتقبّلها، ثم نحسن تأويلها، ومن ثم نستثمرها لمزيد من الارتقاء
لذلك، ليس مطلوبًا منك ألّا تخسر، فهذا ليس ممكنًا ولا مفيدًا، لكن المطلوب أن تحسن التعامل مع خساراتك، وأن تحسن استثمارها. لقد خسرت ألمانيا واليابان الحرب العالمية الثانية، لكن النخب الثقافية والسياسية فيهما أحسنت التعامل مع الخسارة بعيدًا كلّ البعد عن مشاعر التذمّر المدمرة، مثلما تفعل مجتمعات كثيرة.
بل في كلّ تجارب الحياة الشخصية هناك شيء من الخسران: في الزواج وعدم الزواج، في الإنجاب وعدم الإنجاب، في العمل وعدم العمل، في الوقوع في الحبّ وعدم الوقوع في الحبّ... إلخ. فلا يبقى لنا سوى أن نتقبّل ما سنخسره، لكي نستثمره لمزيدٍ من النمو، كيفما كانت خياراتنا في هذه الحياة العابرة.
إنك لا تنمو إلا بقدر ما تتقبّل خساراتك. لذلك يقول لك جلال الدين الرومي: "لا تبك على ما فقدته، فكلّ شيء تفقده يعود إليك في هيئة أخرى".
مقصود القول، إذا كنت ستبكي طوال الوقت، تأسى، تأسف، تتحسر، وتندم، على الخسارة الواقعة أو المتوقّعة، فمعنى ذلك أنك تتشبّث بالخسارة كخيارٍ نهائي وكنهاية للطريق، ناسيًا أنّ الخسارة هي التي ترسم الطريق.
فافعل هكذا، التفت إلى خساراتك وقل لها بعرفان وعنفوان: شكرًا لك يا خساراتي، لقد كنتُ أنا العابر وكنتِ أنتِ الطريق.
فلا تخجل من خساراتك إذا!