تونس.. الحوار بديلاً من الأزمة
تتسارع الأحداث في تونس بصفة غير مسبوقة في ظلّ مسار كامل من الانتكاسات السياسية المتتالية للبلد. فحتى انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول لم تنجح في رأب التصدّعات التي تميّز المشهد، فيما يداوم الرئيس، قيس سعيّد، على تبني الخطاب الذي تعتبره كلّ الأطراف سبباً لإضاعة كلّ الفرص الممكنة والمتاحة لتوحيد التونسيين ودفعهم نحو عملية متكاملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية الجدية، في ظلّ تقديمه لبدائل باهتة ومنفصلة عن واقع ساخن ومتأزم.
ظهر ذلك جلياً في ردود الأفعال التي تلت العملية الانتخابية، والتي ركزت على نسبة إقبال التونسيين على صناديق الاقتراع، حيث فسّر أغلب المتابعين ذلك بغياب ثقة التونسيين في الطبقة السياسية، وما بقي من منظومة الأحزاب، فتحوّلت بدورها إلى كابوس يهدّد شعبية الرئيس التي بدأت بالانحسار في ظلّ تواصل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وانفراده بالملف السياسي للبلد.
ضمن هذا السياق، أصدرت عديد الأحزاب السياسية مواقف متناغمة، تتفق في أغلبها على أنّ نسب المشاركة المتدنية للتونسيين في انتخابات مجلس النواب هي نتاج طبيعي لنظام الاقتراع المستحدث والنابع من القانون الانتخابي الذي صاغه الرئيس بمرسوم دون أن يكون محلّ إجماع أو توافق حقيقي حوله للخروج من الأزمة السياسية وتعطّل المؤسسات الدستورية.
وتتفق أغلب هذه الأحزاب على تآكل شعبية قيس سعيّد التي مثلت لوقت طويل دافعاً قوياً له للمضي قدماً في مسار 25 يوليو/ تموز، وما تلاه من إجراءات فرضها بسياسة الأمر الواقع.
لكن الجديد في هذه المواقف، دعوتها إلى إطلاق مبادرة سياسية تقوم على انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما يعتبر تحوّلاً جوهرياً في سقف المطالب السياسية لعديد الأحزاب، وتحوّل الموقف من قيس سعيّد في إدارة مرحلة ما بعد 25 يوليو.
يصرّ الرئيس على التمادي في نهجه الفرداني في رسم ملامح المرحلة القادمة التي لا يمكن إنكار ملامحها القاتمة
لم يدم الصمت الرسمي طويلاً، حيث خرج الرئيس قيس سعيّد، عبر صفحة الرئاسة، ليقلّل من شأن الانتقادات التي وجهت للعملية الانتخابية، حيث اعتبرها سابقة لأوانها، وانخرط (كعادته) في توجيه التهم لمعارضيه دون تحديد أشخاص بعينهم، أو تفسير التهم الموجهة لهم. وهذا الموقف من الرئيس يؤكد تواصل القطيعة بين الرئيس وبقية الفاعلين السياسيين حول تدارك نكسات المسار أو تقويمها بما يضمن مشاركة أوسع للتونسيين في اختيار ممثليهم عبر الطرق الديمقراطية. ويؤكد أيضاً إصرار الرئيس على التمادي في نهجه الفرداني في رسم ملامح المرحلة القادمة التي لا يمكن إنكار ملامحها القاتمة، وخاصة في ظلّ الأزمة الاقتصادية الراهنة.
تتالت في تونس العمليات الانتخابية، التي اعتادها التونسيون واعتبروها لوقت طويل تعبيراً عن إرادتهم وتتويجاً لنضالات أجيال بأكملها من أجل ديمقراطية مستدامة. غير أن هذا التحوّل النوعي في التعاطي معها يكشف سلوكاً جديداً يعبّر به التونسيون عن سخطهم من تواصل الأزمة السياسية وعدم ثقتهم بأن العملية الانتخابية قد تحدث أي تغيير على الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يستوجب حسب الكثيرين معجزة حقيقية لتجاوزه وتجنّب الارتهان لدى صندوق النقد الدولي، الذي تطرحه الحكومات المتعاقبة كضرورة، لا كاختيار.
هذا التحوّل في سلوك التونسيين يعتبر أيضاً إشارة عنيفة إلى رفضهم للممارسة الديمقراطية واعتبارهم أنّ الحل السياسي قاصر عن حلّ مشاكلهم الجوهرية، التي طال أمدها وانعكست بشكل واضح على جودة الحياة وممارستهم لمواطنتهم وتمتعهم بحقوقهم وحرياتهم.
أما على صعيد الحلول، فإنّ التجربة التونسية جيدة في ما يتعلق بإدارة الحوارات والنقاشات الداخلية ومبدئية جزء هام من الفاعلين في التعاطي مع هذه الحوارات بجدية متناهية. ولعل أبرز مثال على ذلك الحوار الوطني الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل عقب اغتيال الحاج محمد البراهمي صيف سنة 2013، الذي جنّب البلد انزلاقات خطيرة وقوّم إلى حدّ كبير انحرافات مسار الانتقال الديمقراطي وتوّج بالتصديق على الدستور والمضي قدماً في تركيز المؤسسات الدستورية.
اليوم، بدأ الاتحاد مساعيه لإطلاق مبادرته للدعوة إلى حوار وطني يكون نواته الأولى، مستغلاً تجاربه السابقة، وخاصة عمقه الشعبي وثقة جزء هام من التونسيين فيه. ففيما تتزايد كلّ يوم الفجوة بين الشعب والفاعلين السياسيين كافة، بمن فيهم قيس سعيّد نفسه، يحتفظ الاتحاد لنفسه بجزء مهم من ثقة التونسيين، أساسها تحليله الموضوعي للأزمة، ومثابرته على طرح البدائل والحلول من خلال دعوته للحوار الوطني التي انطلقت منذ سنة 2020 عندما تبيّن انسداد الأفق السياسي والاقتصادي للطبقة الحاكمة وعدم قدرتها على إخراج البلد من أزمته، وهو ما يعيشه التونسيون اليوم.
بينما تتزايد الفجوة بين الشعب وكافة الفاعلين السياسيين بما فيهم الرئيس قيس سعيد نفسه، فإنّ الإتحاد التونسي للشغل يحتفظ لنفسه بجزء مهم من ثقة التونسيين
هذا الحوار الذي يعكف الاتحاد العام التونسي للشغل على إدارته، ولئن شكّل خياراً كلاسيكياً عرفه التونسيون وتبيّنوا نتائجه، فإنه يعرف خصوصية مهمة هذه المرّة، في ظلّ وضع صعب ودقيق وغير مسبوق في تونس، يراوح بين مداومة الرئيس قيس سعيّد على إقصاء كلّ الفاعلين في المشهد وتخوينهم وتشتّت هذه الأطراف وتباين مواقفها، وخاصة تأهب المنظومات السابقة للسطو على أيّ حلول منتظرة للخروج من الأزمة، ومراهنتها على المزيد من تعقيد المشهد، لتطرح أنفسها بدائل لفشل قيس سعيّد في إدارة المرحلة، وبالتالي إعادة تونس إلى مربع ما قبل 25 يوليو.
وبالتالي، أصبح الحوار بديلاً لتواصل الأزمة، وضرورة قصوى لا يمكن تجاهلها، في ظلّ تعثر المسار، وحاجة تونس إلى بدائل معقولة ومسؤولة يمكن أن تخرجها من هذه المرحلة الدقيقة التي طال أمدها، والتي تقتضي ألّا يتأخر الحل.