ثقافة الجريمة
إنّ الجريمة الفردية تزداد يوماً بعد يوم في أشكالٍ منها القديم المعروف، ومنها المستجدّ الذي يتوافق مع متغيّرات المجتمعات وتطوّر أنماط عيشها. وهي، أي الجريمة، تزداد بصورة مضطردة إلى درجة يغدو معها المجتمع غير آمن، بما يؤدي إلى عرقلة العلاقة بين المواطن الفرد وبين مجتمعه، بما يصيّره ارتيابياً شكّاكاً تجاه الآخرين القريبين منه والبعيدين عنه في آن.
إنّ علاقة الفرد مع المجتمع ليست فطرية ولكنّها مكتسبة؛ فإذا كان المحيط من حوله جيّداً، يجعله ذلك كائناً اجتماعياً قريباً من الناس، وإذا كان غير ذلك يجعله كائناً اجتماعياً بعيداً عن الناس.
أتابع يومياً حلقات وثائقيات جرائم القتل على قناة "Investigation Discovery; ID"، لملفات شرطة الولايات المحلية في أميركا أو لمكتب التحقيقات الفدرالية (F. B. I)، حيث تعلّمك هذه القناة أنّ الخطر أقرب ممّا تظن، على المستوى الروحي والعقلي والعاطفي والسلوكي والجسدي، إذ تعرّفك على طبيعة الجريمة وأسبابها، وعواقبها، وكيفية السيطرة عليها، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي. وسنتعرّف سوياً على مستويات أو أبعاد الجريمة، وهي كالتالي:
على المستوى الروحي؛ إنّ معظم العلاقات بين الدولة والمواطن لا تتم بالتراضي، وعلى هذا النحو، فإنّ القانون الجنائي لا يمثّل بالضرورة المعتقدات والرغبات العامة، فهو يمارس لصالح الطبقة الحاكمة أو المسيطرة. فهناك جرائم يمكن تصنيفها بجريمة ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء؛ جرائم الشركات، الجريمة المنظمة، جريمة سياسية، جريمة النظام العام، جريمة الدولة.
على المستوى العقلي؛ بالأساس الجريمة تستند بشكل أساسي إلى التخطيط، وتحديداً التخطيط لفعل الجريمة، ويتجاهل المجرم سردية الجريمة من حيث إطارها الزمني، فهي قبل وأثناء وبعد، ويستحيل أن تكون هناك جريمة دون خيوط من الأدلة الظرفية والمادية لهذا الإطار، وخاصة مع تقدّم العلم والتكنولوجيا في أخذ عينات من الحمض النووي للمشتبه به. لذا حتماً سيُمسك بالمجرم في وقتٍ أو آخر.
على المستوى العاطفي؛ جميعنا مجرمون بحقّ أحدهم أو بحقّ أنفسنا على الأقلّ، قد تكون جريمةً ماديةً أو جريمةً معنويةً. نحن نغرز خنجرنا في الإنسان. وبشكل أدق، نحن نكره جنسنا ووجودنا، لذلك نوجّه هذا الغضب الوجودي إلى الوجود الإنساني ككلّ. جميعنا مجرمون بسياقات مختلفة وأخرى محدّدة.
هناك جرائم يمكن تصنيفها بجريمة ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء؛ جرائم الشركات، الجريمة المنظمة، جريمة سياسية، جريمة النظام العام، جريمة الدولة
على المستوى السلوكي؛ في لحظات الغضب تُعمى البصيرة؛ أغلب المجرمين يقولون إنّهم نفذوا جرائمهم عن طريق الحلم أو إنّ جريمتهم كانت مجرّد حلم! لذلك فور الغضب، يبقى الحل الأفضل أن تترك المكان، وأن تتخلّص من كلّ أسلحتك؛ كلّ من يحمل مسدّساً أو سكيناً لديه نيّة القتل، إذاً هو قاتل بالافتراض والاحتمال أو بالحتمية. إلا إذا كان للحماية الشخصية في سياق خاص جداً.
على المستوى الجسدي؛ أنت مسؤول عن كلّ ما يدخل ويخرج من جسمك؛ مثلّث الجريمة أي دوافع الجريمة، يحمل عناصر الجريمة المتعلّقة بالجسد وتحديداً الشهوات؛ المال أيّ الجهد في الجسد، المخدّرات أي ما يدخل الجسد، الجنس أي ما يخرج من الجسد. وعند التحقيق في أيّة جريمة يبدأ التحقيق من المستويات الدنيا، أي من المستوى الجسدي، ليصل إلى أعلى مستوى، أي المستوى الروحي.
إنّ الجريمة ستصبح يوماً ما جزءاً من التراث العريق للشعوب، وتراثاً يعتزّ به أصحاب الفكر الإجرامي، الذين يجدون فيها المشروعية الاجتماعية بناءً على مفاهيم مغلوطة ومشوّهة عن طبيعة الاقتصاص والانتقام، وذلك إذ لم نتنبّه إلى حاجة المجتمع إلى استحداث برامج تربوية واقعية تتناسب وطبيعة الحياة الراهنة، وإصلاح رسالة الإعلام، وتجديد الخطاب الديني ليجيب عن أسئلة الجيل المعاصر وحيرته، بما يحتوي أخطاءه ويوجّه قدراته نحو البناء والعمل، وإنشاء مراكز التنمية النفسية، وإيجاد فرص عمل للجيل تستثمر طاقاته وفراغه، بدلاً من تركه عرضة للفراغ والقلق والانطواء والاكتئاب والانحراف. وإلا فإنّ الحقيقة أنّ الجريمة ستصبح ثقافة!