ثلاث نساء لم أستطع تجنّبهنّ
لا أخفي عليكم، الوحدة تشبه القطّ الذي يتعرّف كلّ يوم إلى براثنه، تارة يستغني عنها ويمنحنا لذّة اللّمس وطورًا يخربش حماقاته وضجره على خدودنا فينزف الدم والألم بالتوازي. هكذا هي الوحدة، وهكذا هو التأنيث في العالم، ومن هنا لا يمكن أن تكون النظرة إلى المرأة مبنية على الجسد والأنسنة والهويّة فقط، بل على الجوهر، الحضور والمعنى.. الأنثى أو المرأة تخطّت لديّ الجنس والجندرة، وصارت جرعة على حدّ تعبير نزار قبّاني... أدمنتها، فصار انقطاعها هاجسًا وحضورها الضبابيّ نوبة عصابيّة ترشح نشيجًا، لم أستطع إحصاء النساء في حياتي، سواء كنّ من لحم ودم أو من فكر وروح... ولم يكن لجسدي الحظّ منذ ربع قرن في التعرّف إلى جسد المرأة المجرّد إلّا من العطر والحرارة... شارع الوقت طويل، ولم يعرّفني إلّا على ثلاث نساء، لم أستطع تجنّبهنّ حتّى الآن.
الكتابة ورعشة الألم
منذ ست سنوات حتّى يومنا هذا لم أجد تعريفًا للكتابة على أنّها انتحار أو إعدام ميّت. من نزار قبّاني إلى إيفان كليما أو خورخي بورخيس رجوعًا إلى المتنبّي... كلّهم تسلّحوا بالكتابة، بالأحرف الموزونة، وبالأجراس التي تعطي للغاتهم الرنين.
شخصيًّا، أجد الكتابة مرضًا يتجدّد، يمنحني رفاهيّة التفرّج على مناعتي النّفسيّة وهي تتدمّر تدريجيًا، والمساحة البيضاء الكافية كي أكون على ما أنا عليه من فقر في الصياغة أو شحّ في مخزون الألفاظ، الكتابة حوّلتني إلى معجم مستهلك، أكتب لأنّ سواي سبقني وفعل ذلك، أو كي أكون فريسة سهلة للمرسل إليهم.
عرفتُ أنّ لهمنغواي وسليم بركات مزاجًا خاصًّا تجاه الملاكمة، ومن وقتها بدأت أشعر أنّي الحكم الذي يقف بين هذا الأنغلوسكسوني وذاك الكردي المنطوي على حياته، أتلقّى منهم اللكمات اللغويّة، واحدٌ يريد أن أنتفي دون أن يرشح من جسدي بارود اليأس والآخر يلكمكَ، لأنّ لغتك فقيرة كبيدرِ قمحٍ يلتهمه اللهب.
ليس سهلاً أن تكتشف ضعفكَ حين تمسك القلم وتكتب كي ترى السماء خالية من الأدعية والشوارع تخلو من ضجيج الناس والرزنامة خالية من نهار الأحد
أكتب منذ عشر سنوات، الرعشة لا تفارقني كأنّ أصابعي ترفع أثقالاً ويحمّلها الشعور ما لا طاقة لها به. الكتابة لم تكن سوى التصفيق المتعالي على الوجع، جمهور ينتظر أن يسقط نصّك كتفّاحة نيوتن ليصفّقوا دون أن يعالجوا أو يكترثوا للبعد الدراميّ لهذا السقوط على رأسك، وخاصة إن كان عن المرأة، ليس سهلاً أن يكتب رجل من المدينة عن امرأة لم يعرف إلّا عبرها طعم الحبق ولون الكرز ومجرى النّهر. ليس سهلاً أن تكتشف ضعفكَ حين تمسك القلم وتكتب كي ترى السماء خالية من الأدعية والشوارع تخلو من ضجيج الناس والرزنامة خالية من نهار الأحد.
الأغنية... شرّ القلب
أميل إلى الأغنيات القديمة، تلك التي لا ترتبط بنمط غنائي أو بمدرسة شخصانيّة، أخيرًا أستمع إلى جورج وسوّف بنسخته الثمانينيّة، أبحث عن نفسي في صوته الخالي من البحّة والنيكوتين والخمرة، عن المرأة التي تحبّني لكنّها أضاعت الطريق من جبل القمر إلى سهل الصدفة.
جورج وسوف الشابّ يحاول أن يمنحني كلّ شيء في حفلاته المسجّلة، بدلته البسيطة الكلاسيكيّة، شعره الفوضويّ التسريح، حركته مع كلّ مقطع من حلف القمر، مناجاته في "روحي يا نسمة". لم يمنحني الصبر حين قال "لكن صابرين بالحبّ هايمين" بل واساني، فجورج الذي تحوّل إلى عصبيّ انفعاليّ، شرّع لي الغضب وكذلك المرض، شراء الشفقة ورميها في بحيرة الصمت.
وكذلك أطلال أم كلثوم، الأمّ التي تؤنّبنا بوصف ما فعلناه ونفعله بحقّ قلوبنا وعقولنا، كلّما سمعتها في الأطلال أو سيرة الحبّ ينقلب رأسي إلى مسرح أضيع فيه ويضيّعني، لغة التصفيق تعلو لتخدش مسمعي ولهجة الهتاف تقصّ شرطان السيروتونين الذي يمنحني النوم.
أكتب منذ عشر سنوات، الرعشة لا تفارقني كأنّ أصابعي ترفع أثقالاً ويحمّلها الشعور ما لا طاقة لها به
الأغنية هي المرأة التي أحبّها أن تفترسني، وأنا في الفراش مغمض العينين، الأغنية حين تتحوّل إلى صدفة يصعب بعدها الصراخ أو الهرب منها.
المرأة التي تختفي ككاسبر
من الصعب جدًّا التعلّق باِمرأةٍ تختفي، تترككَ على حافّة الانتظار، تنظر إلى ملامحكَ وهي تتهاوى متعبةً إلى القاع، تردّ على رسائلكَ وفقًا لمزاجها، ترمي لكَ كلمات معسولة، قليلة، تشبه المساعدات الغذائيّة التي ترميها الأمم المتّحدة عبر طوّافاتها لبلد يعاني مجاعةً، من الصعب النّظر إلى صورها دون أن تكون لأصابعكَ رفاهيّة التعليق على جمالها وبشرتها وعينيها اللتين تنظران بحكم الوهم إليك، وأنت غارق في بحر الذنب والتفريط بالكرامة.
ليس حبًّا على الأرجح، هو مرضٌ لا تعرف منه من الكاذب: قلبكَ أم وجودها؟
المرأة التي تترك لكَ اسمها وتاريخ ميلادها وتفاصيل جسدها، التي تخبرك متى تأتيها الدورة الشهريّة، ومتى ستمنحك جسدها وتختفي، التي تبحث في عينيكِ المتعبتين من حراثة حقل القراءة عن بريق تكتب فيه على ذاكرتك أنّها تحبّك، وتختفي قبل أن تعرف متى ستلتقيان؟
تلك المرأة "الكاسبر" تجعلني أرى الورد على أنّه شوك ودواوين محمود درويش مجرّد جرائد قديمة خالية من صفحات الحوادث. المرأة التي تعلّمك استخراج جناحي الملاك من ظهرك وتصديقها فقط، لأنّها حلوة، ولا بديل لخلاصك عنها إلا بالمزيد منها.
ثلاث نساء لم أستطع تجنّبهنَ، قد يكون المقهى الذي أتردّد إليه تابوتًا دافئًا يخرجني من قبور التفكير من فترة إلى أخرى وخاصّة أنّه يخلو من تلك النساء.
وقد أضطر يوما ما إلى السير مبتور اليد، منزوع الشهوة ومسلوب السمع كي أحاول أن أحيا، باستقرار بسيط على الأقل...