جميل الأسد في مقهى القصر بحلب
كان أدباء مدينة حلب وريفها، يتخذون من "مقهى القصر"، القريب من سينما أوغاريت، ملاذاً لهم، يجتمعون حول طاولاته في أوقات مختلفة من النهار، وبالأخص في الفترة التي تبدأ في الرابعة عصراً، وتستمر حتى حوالي التاسعة ليلاً.
وبما أنني كنت أقيم في إدلب، التي تبعد عن حلب 60 كيلومتراً فقط، فقد آثرت أن أنضم إلى أدباء حلب، أو ألجأ إليهم (لجوءاً غير سياسي بالطبع)، أزور حلب مرة أو مرتين شهرياً، وأذهب (سكارسا) إلى مقهى القصر، وأجالس الأدباء الموجودين مصادفة وقت وصولي.. وخلال مدة قصيرة توطدت أواصر الصداقة معهم جميعاً، دون استثناء، واستمرت هذه الصداقة حتى الآن (من طرفي أنا على الأقل).
كان الأدباء يتحدثون، غالباً، في شؤون الكتابة والنشر في الصحف، وما يجري في الأمسيات الأدبية من مواقف.. وأما حديث السياسة فلم يكن يفتح على نطاق واسع، بسبب الظروف الأمنية المعروفة، ويكاد أن ينحصر بين اثنين توجد بينهما ثقة متبادلة.
أحد رواد المقهى، وهو كاتب مهم، سأصطلح على تسميته بحرفين هما (سين صاد)، لديه نَفَس ساخر، كان ميالاً إلى الاستهزاء بما يظهر على بعض الناس من تناقضات في السلوك.
لم يكن أحد من زبائن هذا المقهى، أو غيره، ليجرؤ على حمل ورقة من مطبوعة ممنوعة في جيبه أو حقيبته، فلو ضبطت معه قد يذهب إلى معتقل حقير، ويمتد غيابُه سنوات، ويكاد معظم الناس يفقدون الأمل من عودته.. ولكن صديقي سين صاد كان يحتفظ في جيب قميصه بقصاصات من الصحف المحلية، وهذه القصاصات، قد تسبب لحاملها مشاكل شخصية، أو مشاكل أمنية، ويكون السؤال الأمني هو: لماذا قصصتَ هذا الخبر بالذات؟ ماذا تقصد؟ إلخ..
كانت القصاصة تتضمن الخبر التالي: اللاذقية - سانا. أدلى عضو مجلس الشعب السوري "جميل الأسد" بتصريح حث فيه الحكومة على تشديد الإجراءات المتعلقة بمكافحة التهريب!
فمثلاً، كان بين أدباء هذه المنطقة واحد عُرفت عنه السرقة من إبداعات الآخرين ونسبتها لنفسه بعد أن يجري عليها تحويرات طفيفة، حتى أصبح رصيده الأدبي مثل طبيخ الشحادين، وذات مرة أخرج لي سين صاد ورقة من مجلة أدبية، فيها لقاء مع الأديب اللص. بدأت أقرأ اللقاء وهو ينظر إلى وجهي ليرى الانطباعات التي ترتسم عليه، وحقيقة أنني ابتسمت في البداية، ثم ضحكت بصوت مرتفع حينما وجدت أن الأديب اللص ينتقد السرقات الأدبية، ويطالب بإنشاء محكمة مختصة بالدعاوى التي يرفعها أصحاب النصوص المسروقة على سارقيهم.
همست لـ سين صاد: من حسن الحظ أن صاحبنا ما طالب بإنشاء فرع أمن مختص بالسرقات الأدبية مزود بأدوات نزع الاعترافات على غرار فرع فلسطين!
وفي مرة أخرى، كنت داخلاً إلى المقهى، وكان مزدحماً جداً، فوقف سين صاد جالساً ضمن مجموعة يتوسطها الأديب وليد إخلاصي. رفع يده وناداني قائلاً: أبو الخطوب! (الخطوب تعني المصائب والكوارث، ومع ذلك كنت أحب هذا اللقب حينما يصدر عن سين صاد).
ذهبت إليه، سلمت على الأصدقاء الحاضرين.. وجلست. سين صاد طلب من النادل نمر أن يحضر لي فنجان "اسبريسو"، وبعدما هدأت السلامات والتحيات بيني وبين الأصدقاء أخرج سين صاد من جيبه قصاصة من الصفحة الأخيرة من جريدة تشرين، وهمس لي أن أقرأها دون أن ألفت نظر الجالسين.
كانت القصاصة تتضمن الخبر التالي: اللاذقية - سانا. أدلى عضو مجلس الشعب السوري "جميل الأسد" بتصريح حثّ فيه الحكومة على تشديد الإجراءات المتعلقة بمكافحة التهريب!
الطريف في الخبر أن المرء، في تلك الأيام، كان يستطيع أن يقول وهو مرتاح الضمير إن "جميل الأسد" أكبر مهرب عرفته البلاد التي حملت اسم الجمهورية العربية السورية منذ الأزل، ويمكنه، كذلك، أن يتنبأ بأن هذه البلاد لن تعرف مهرباً أشد طمعاً وجشعاً وحقارة من جميل الأسد خلال مائة سنة قادمة..
بعدما أعاد صديقي سين صاد قصاصته إلى جيبه، همست له بفكرة خطرت لي في تلك اللحظة، وهي: من المحتمل أن جميل الأسد يتضايق من المهربين الآخرين، ويطلب من الحكومة مكافحتهم لئلا يزاحموه على لقمة عيشه.
ابتسم وقال لي: لقمة عيشه؟
قلت له: لو كنت مثلك أحتفظ بقصاصات الجرائد لأطلعتك على خبر قرأته قبل سنوات، يتضمن تصريحاً لجميل الأسد نفسه، تحدث فيه عن إقدام بعض موظفي وزارة الداخلية في محافظة اللاذقية على تزوير انتخابات مجلس الشعب.
وحكيت له، (وكنا، كلانا نتهامس، مستغلين ازدحام المقهى الذي ينجم عنه لغط قوي) عما جرى في تلك السنة، وهي أن جميل الأسد، في تلك السنة، كان مرشحاً لعضوية مجلس الشعب، وكانت تلك المرة الوحيدة التي أنجزت فيها الانتخابات وما يليها من فرز للأصوات بنزاهة، فسقط جميل الأسد، سقوطاً مدوياً، وحصل على عدد مخجل من الأصوات، فصرح لوكالة "سانا" بأن الانتخابات زوّرت، واتفق مع مجموعة من المرشحين الساقطين (حاشاك)، وكلهم من البلطجية والمهربين والشبيحة، على تقديم كتاب رسمي مشترك للجنة الدستورية، يتضمن طعناً رسمياً في نزاهة الانتخابات، واللجنة الدستورية وافقت (صاغرة) على قبول الطعن، لأن جميل وضع كل ثقله في الضغط على رئيسها وأعضائها، وقررت اللجنة إعادة الانتخاب في محافظة اللاذقية، وأعيدت، وجرى فيها تزوير الفرز، ونجح جميل الأسد، وهكذا عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي.
وختمت حديثي بالقول: كان على نظام حافظ الأسد أن يعتذر للناس على النزاهة التي (ارتكبها) في المرة السابقة.. ولكنه لم يعتذر.