حاضرة أم حضارة؟
"الحاضرة" مصطلح غير متداول للإشارة إلى ما ندعوه الحضارة، لكني أحببت أن أدعوها كذلك لأنّ هذه الكلمة مثقلة بالمعاني التي لا تعجز عن وصف الحضارة نفسها، فلو اتجهنا نحو اللغة، فهي مشتقة من الحضور، ويصنفها النُحاة على أنها اسم فاعلٍ مؤنث للفعل حضر. وقد استخدمها العرب سابقاً لوصف ما نسميه بلغة اليوم "العاصمة"، فلفظة العاصمة كانت عندهم تعني التخوم الحدودية التي تعصم البلاد من العدو، وهكذا أطلقوا على رقعة من بلاد الأناضول مصطلح "العواصم".
أما مركز الحكم، فكان يُدعى الحاضرة، فبغداد كانت "حاضرة بني العباس" وكذلك دمشق لبني أمية.
لكن ما يهمنا في هذه الكلمة قربها من معنى الحضارة، وكلمة الحضارة التي تعني بمضمونها المعاصر "التحضّر"، والذي يفسّر اصطلاحاً وليس لغةً، على أنه العيش الراقي، تتفرّع منها تعريفات ومضامين جدلية، اختلف المؤرخون في تفسيرها.
لنعد إلى موضوعنا الأصلي، أي الحاضرة، ولما أطلقتها على مفهوم الحضارة عموماً. لطالما كانت الحضارة هي الشاهد على تاريخ الناس، في رقعة مكانية وبرهةٍ زمانية، فهي "حاضرة" فيهم وفي وجدانهم، وإطلاقي هذا الاسم عليها يأتي من باب تجريدها من المبنى المادي وتعميمها إلى المبنى النفسي. فالحضارة حاضرة، ليس في ما شيَّد قومٌ من بروجٍ وقصور ومساكن وحياة فارهة، بل في كونها حاضرةٌ في نفوسهم، يحملونها أينما سارت أقدامهم، وينقلونها جيلاً بعد جيل، حتى إذا ما وجدت بيئةً مناسبة خرجت من صدورهم وعقولهم على شكل مظاهر مادية يخلّدها الزمان.
لا يمكن حصر الحضارة في الجانب المادي فقط كالمباني والقلاع... أو اختزالها في أنماطٍ سياسية كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول، بل بما تنتجه أمةٌ ما من خصائص مميزة وفنون
إذاً، يمكن تعريف الحضارة على أنها النتاج الفكري والثقافي المتراكم لأمةٍ من الأمم، والذي يعطيها خاصية مميزة عن الأمم الأخرى.
ولا يمكن حصر الحضارة في الجانب المادي فقط كالمباني والقلاع والقصور، أو اختزالها في أنماطٍ سياسية كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول، بل بما تنتجه أمةٌ ما من خصائص مميزة وفنون.
وهذا واضح لدى الفئة المثقفة قطعاً، لكن الجدل حول المفهوم ومعناه يحصل لدى العامة، وأعني بذلك العامة المؤثرة، سواءً في السياسة أو الإعلام أو الفن..
والمخيف في ذلك، أنّ التعريف الخاطئ للحضارة يستخدم كوصمةٍ تمييزية عنصرية، لتصنيف الشعوب إلى شعوبٍ لديها حضارة (لمجرد كونها تملك ماضياً عريقاً وكومة من الحجارة المرصوفة بشكلٍ جميل) وشعوب بلا حضارة (لمجرد أنّ حضارتهم معنوية لا مادية)، ويبنون على ذلك حججاً واهية بضرورة سيطرة تلك الشعوب (الراقية حضارياً بمفهومها المغلوط) للشعوب عديمة الحضارة (على حد وصفهم)، وبذلك نسجوا ما يعرف بـ"عبء الإنسان الأبيض".
فطبقاً لتعريفنا للحضارة أعلاه؛ لا يوجد شعبٌ في أي بقعةٍ من بقاع العالم بلا حضارة، فمجرد أنّ نمط عيشهم لا يشبه ما تتخيّل، لا يعني أنهم أجساد مجوّفة خالية من المضمون. ولهذا تم وصم العرب، والأفارقة، وما يسمونهم بالهنود الحمر (وبالمناسبة هم ليسوا هنوداً ولا حمراً) بكثير من الصفات.. وهذا هو المفهوم المغلوط الأول للحضارة (مفهوم ربطها بالجانب المادي). أما المفهوم الآخر، والشائع أكثر، وهو ربط الحضارة بالماضي (الماضي البعيد طبعاً لسبب أو لآخر)، فاعتبروا أنّ كلّ شعب ليس لديه ماضٍ عريق فهو بلا حضارة، وربما نسمع ذلك كثيراً في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فاعتبروا مثلاً أنّ إيطاليا واليونان وربما مصر والعراق بلاد حضارة، وما دونها فلا، لما تركه ساكنو هذه الأرض من إنجازاتٍ لا يمكن عدّها في مجالاتٍ مختلفة، ولا أحد ينكر ذلك، لكن التناقض هو اقتطاعُ أجزاء من التاريخ واستخدامها لبرهان هذا المسعى، فإنهم يعيبون على العرب ذلك، ويصفونهم بغير المتحضرين لأنه لم تقم لهم حضارةٌ قبل 7000 عام! حسناً، لماذا 7000 عام بالتحديد لاعتبار قومٍ ما متحضرين أم لا، فذروة حضارة العرب بدأت قبل 1400 عامٍ تقريباً، أليست مدة كافية بنظرهم!
طالما كان الانعزال هو العامل المشكّل لتميّز الحضارات عن بعضها البعض، ولكن اليوم أُزيل هذا الانعزال بتطوّر وسائل النقل والنشر، فأصبحت الشعوب مفتوحة على بعضها البعض
طبعاً لا داعي أن أقول إنّ معظم هذه الشعوب (المسمّاة بالمتحضرة) لا تمتد بالنسب إلى تلك الشعوب القديمة.
وتعقيباً على ذلك، فهذا الإشكال يتجاهل الحاضر ويخوض في الماضي، فحضارتك الشخصية ليس ما كان يفعله قومٌ سكنوا الأرض التي تسكنها اليوم، بل إنّ الحضارة هي الأفكار والتصوّرات التي ترى بها العالم، ويرى بها كذلك أكثرية قومك، وما سوف تمرّره لاحقاً لأحفادك، فيتراكم ليصبح نمطاً اجتماعياً مزدهراً في تارةٍ من التاريخ ويأفل نجمه في تارةٍ أخرى.
وحيثما كان مفهوم الحضارة هو التصوّر العام للعالم وما ينتج عنه من ردّات فعل عند شعبٍ ما، تحثهم على تكوين ثقافتهم، فما نراه الآن من تعدّد للشعوب لا يمكن أن نصفه بتعدّد للحضارات، ففي سابق الزمان كان لكل شعبٍ ما يكفي من الأمور ليتميّز قطعاً عن الشعوب الأخرى، أما في الوقت الحاضر، وإن اختلفت اللغات وتعدّدت الثقافات وتنوّعت أساليب الحياة والبناء، فإنّ النظرة العامة لجميع البشر (تقريباً) واحدة، طالما كان الانعزال هو العامل المشكّل لتميّز الحضارات عن بعضها البعض، ولكن اليوم أزيل هذا الانعزال بتطور وسائل النقل والنشر، فأصبحت الشعوب مفتوحة على بعضها البعض، ومن المعروف أنّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يتأثر بمحيطه، وقد ساعدت هذه الميزة الإنسانية في ذوبان الثقافات في بعضها البعض وصنع الحضارة العالمية.