حبك في قلبي دبيك بغال
تشريق وتغريب (7)
استهل صديقي أبو أحمد آخر مكالمة جرت بيننا بالتعليق على الحكاية التي رويتُها له في المكالمة السابقة، وملخصُها أن "كلب حباشو"، المسكين، تقدم به العمر، فصار لا يعوي إلا عند الضرورة القصوى، ويُمضي معظم الأوقات متقوقعاً على نفسه في فيء دار صاحبه. وقال:
- يا لها من قصة مدهشة.
قلت: أديبنا الراحل بو علي ياسين له كتاب عنوانه "شمسات شباطية"، أوضح في مقدمته أن شهر شباط /فبراير يبشر بقدوم الربيع، وتظهر فيه الشمس أحياناً، فيخرج الفقراء خارج بيوتهم، ويتشمسون بعد طول برد وزمهرير. وبما أننا فتحنا سيرة الكلاب.. لفت أحدُ الأصدقاء، من قرية رامحمدان التابعة لناحية معرتمصرين، نظري إلى أن الكلب، في الربيع، يفعل الشيء نفسه، إذ يخرج إلى الشمس، ولكن، ما إن تمر خمس دقائق حتى يشعر بالحر، فيقف ويتمطى ويعود إلى الفيء، وبعد دقائق قليلة يشعر بالبرد فيعود إلى الشمس.. وهذا ما جعل أحد أهالي القرية يسمي هذا الطقس: محيّر الكلاب!
- يا لها من تسمية معبرة. أتدري يا أبو مرداس؟ أنا ما زلت أشك في القول المنسوب لأبي العلاء المعري، بأنه يعرف للكلب سبعة وسبعين اسماً.. وأردد مع نفسي المثل القائل: الكلبُ كلبٌ ولو طَوَّقْتَهُ بالذهبِ.
- الحقيقة، يا أبو أحمد، أن تهجيرنا نحن السوريين من قِبَل ابن حافظ الأسد إلى أوروبا، قد فتح المجال لحكايات جميلة عن الكلاب. هناك سوريون كثيرون، كما تعلم، سافروا من إزمير التركية إلى اليونان بالبلم، ووصلوا أخيراً إلى ربوع ألمانيا الغناء، وعاشوا في كنف أم كرمو..
- مين أم كرمو؟
نحن لم نترك بيوتنا وبلادنا وممتلكاتنا لنحل مشكلة العَمَالة في ألمانيا وبقية دول أوروبا، الذي أخرجنا من ديارنا هو المجرم بشار الأسد ونظامه الفاشستي
- السيدة ميركل، وهذا اسم أطلقه عليها السوريون، وقد اشتقوه من اسمها، ولأنهم صاروا يأخذون خرجيتهم من الجوب سنتر، غيروا اسمه وصاروا يقولون عنه (بابا سنتر).. المهم، بعد تمضية شهرين أو أكثر في الكامب، يُحال اللاجئ إلى المحكمة، وتوجه إليه بعض الأسئلة، قبل أن يُعطى الحق بحماية الدولة الألمانية.. ومن القصص الطريفة، أن أحد السوريين سألته القاضية (عن طريق مترجم معتمد طبعاً):
- كيف كنتم تعيشون في سورية؟
قال: عيشة الكلاب.
فهتفت القاضية بحماس: عال. معناها كنتم مبسوطين ومرفهين!
أدرك اللاجئ، عندما سمع هذا التعليق من القاضية، أن في الأمر التباساً، فقال لها: سيدتي القاضية، عندما قلت لك إننا نعيش عيشة الكلاب فأنا أقصد الكلاب السورية. (وقال للمترجم) لكي تفهم السيدة القاضية كيف نتعامل نحن السوريين مع الكلاب الجعارية، سأحكي لها عن منادمة شعرية بين عاشقين سوريين، أريد منك أن تترجمها لها بكل أمانة.
هز المترجم رأسه موافقا، فقال اللاجئ:
- يا سيدتي القاضية، السوريون شعب مثل غيرهم، فيهم الراقي، وفيهم الغشيم الهردبشت. أراد رجل سوري (هردبشت) أن يعبر لمحبوبته عن عميق حبه لها، فقال لها وهو يذبِّل عينيه من فرط الهيام:
حبكْ في قلبي دَبِيْكْ بْغَالْ
هديرُه مثل طاحون الحصا
فردت عليه حبيبته، وهي ليست أقل منه وجداً وتذبيلاً للعينين، بقولها:
حبيب القلبْ، لا تَنَمْ على الدربْ
يحسبونك كلب، يهشُّونك بالعَصا
لم تضحك القاضية، على الرغم من أنها فهمت النكتة، وسألت الرجل:
- ولماذا تضربون الكلب بالعصا؟ وهل يُضرب الكلب؟
ضحك أبو أحمد وقال: من حسن حظ تلك القاضية أنها لم تسمع بحكاية الكلب الذي دخل إلى أحد أماكن العبادة بالخطأ، فما إن رآه الناس حتى بدأوا يضربونه بالشماسي والعكاكيز، وبقطع الأخشاب المرمية في الباحة، ومَن كان أعزل راح يرفسه بقدميه.. كل هذا وهم يظنون أنه كلب داشر، لا صاحب له.. وفجأة وصل راعي أغنام ملهوف، يسأل عن كلبه، فتركوا الكلب، وشرعوا يضربون الراعي. ظلوا يضربونه حتى تحول إلى عفيسة.
- والله يا أبو أحمد إن هذه القصة معبرة. ولو عرفت بها القاضية الألمانية لوسعت دائرة أسئلتها، فتقول: لماذا ضربوا الراعي؟ ولماذا ضربوا الكلب؟ لماذا أنتم عدوانيون وعنيفون إلى هذه الدرجة؟ المهم، يا صديقي، هذا هو لب الموضوع الذي كنا نتحدث فيه، ويمكن تلخيصه بكلمتين: اختلاف الثقافات. ويبدو أن اختلاف الثقافات كان نائماً فأيقظه ابنُ حافظ الأسد الذي صار يضرب الناس بالبراميل والكيماوي، فهرب الذين بقوا على قيد الحياة إلى أوروبا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا هربنا كلنا إلى أوروبا؟ الجواب، ببساطة، لأنها بلاد علمانية، ديمقراطية، تحترم حقوق الإنسان، وتطبق قوانينها التي تنص على تقديم الحماية لأي إنسان قادم من أية بقعة من بقاع الأرض، إذا كان ثمة خطر عليه في بلاده.
- البعض يقولون إن ألمانيا، والدول الأوروبية الأخرى، فتحت أبوابها للاجئين لأنها بحاجة ليد عاملة. ما رأيك بهذا القول يا أبو المراديس؟
- سأجيبك بنقطتين، الأولى، نحن لم نترك بيوتنا وبلادنا وممتلكاتنا لنحل مشكلة العَمَالة في ألمانيا وبقية دول أوروبا، الذي أخرجنا من ديارنا هو المجرم بشار الأسد ونظامه الفاشستي، والثانية، أن بإمكان الشخص الذي يعتقد أن استقبال الدول الأوربية لنا هدفُه الحصول على يد عاملة أن يأخذ أبناءه ويغادر. هو حر طبعاً.
- يا سيدي، لا يوجد سوري حر. الدول العربية المستقرة تمنعنا من دخول أراضيها.. والعودة إلى سورية تعني: حواجز تفتيش، وقتل، ونهب، وموت تحت التعذيب.. وعليه فإن الحرية الحقيقية يمكن أن يعثر عليها الإنسان في أوروبا. المهم. دعنا نتابع تشريقنا وتغريبنا. هل تعلم يا أبو مرداس؟ إنني، من يوم أن حصَّلتُ رقم تلفونك وأنا أتحين الفرص لكي أتحدث معك، وعندما تكون شبكة الإنترنت قوية أول ما أفكر فيه هو الاتصال بك. أتدري لماذا؟ لأنني، مثلاً، أعرف قصة الغَزَل بين اثنين من العشاق الهردبشت، والحب الذي يشبه (دبيك البغال) بين هذين الكائنين، ولكن، عندما وضعتَ أنت القصة في سياق موقف أشخاص يمثلون ثقافتين مختلفتين، ارتفعت قيمتها الفنية.
(وللحديث صلة)